40 يومًا يا أبي.. كيف مرت؟!

843

بكيت، ضحكت، سافرت، ركضت، أُنهكت، وما زال شعوري بالفقد قائمًا، الكثير بداخلي كنت أتمنى أن تعرفه وأخشى أيضًا أن تعرفه، فلست بالنسبة لك سوى قارئة عادية، وسط آلاف الشباب الذين نعوك وأبكاهم رحيلك المباغت، ربما لم تسمع عنها من قبل، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لي على الإطلاق، لست قارئة عابرة لأحمد خالد توفيق، ولست مجرد شابة من “جيل الشباب” الذي جعلتهم يقرؤون، الأمر أبعد من ذلك بكثير يا أبي.. بكثير جدًا.

 

الخطاب الورقي الأول في حياتي كان لأجلك أنت، لم أرسله قط، كان حبي وإجلالي أكبر من الكلمات، كنت خائفة من لقائك، خائفة من رد فعلك، لم أكن لأحتمل أن تقلل مني أو أن تعاملني بطريقة عادية، فما لديَّ لم يكن عاديًا، وما كان لينكسر إذا ما عاملتني بجفاء، أكبر من قدرتك على التصور.

 

جاءني نبأ الوفاة منتصف الليل، كنت على طريق سفر، فجأة انخرطتُ في بكاء غير مسبوق، لم أعتد البكاء في أعقاب أحداث الوفاة، لأنني لا أستوعبها من الأساس، لماذا بكيت؟ كيف فاجأتني أعصابي برد فعل كهذا، لا إرادي ولا عقلاني بالنسبة لي على الأقل.

 

ظللت هائمة ليومين، تبدو حياتي عادية، لكنها ليست كذلك، كلما تذكرتك تدمع عيناي، وأشعر بالفقد من جديد، لا أحتمل فكرة عدم وجودك، فجأة تذكرت أن ثمة صورة تجمعنا معًا، فتشت كالملسوعة عن تلك الصورة الوحيدة التي جرى التقاطها على عجل خلال إحدى حفلات توقيعك بمعرض الكتاب، وتذكرت أيضًا أنني مسحتها بينما أبكي وأقسم أنني لن أقرأ لك مرة أخرى.. كنت كاذبة.

 

كانت المرة الأولى في حياتي التي أتوجَّه فيها إلى أرض المعارض، أرى هذا الكم الهائل من الكتب، أجوب الأجنحة واحدًا خلف الآخر، لأجلك أنت، كان قلبي يدق بشدة، كأنني على موعد لرؤية أبي للمرة الأولى، وقفت بين الحشد أرمقك بانبهار، يومها أدركت للمرة الأولى أنني لست الوحيدة المأخوذة بكتابتك، لست الوحيدة التي تعرفك، ولست الوحيدة التي تسابق للحاق بموعد توقيعك، رأيت ذلك الشغف على الوجوه فتراجعت للخلف، في البداية كانت صدمتي كبيرة، لا أدري من أين أتيت بفكرة أنني وحدي من تقرأ لك، وحدي من تصنع عالمها وتمدها بالكثير من العوالم التي تفتقدها على أرض الواقع، وحدي كليًا كما هي الحال على أرض الواقع.

 

صدمة تحوَّلت إلى شعور عارم بالقهر، حين رأيت ابنك إلى جوارك، تراجعت للخلف أكثر، يومها رحلت مُحمَّلة بحزن كبير حين رأيتك ترحل بصحبته، تربت على كتفه، تضمه إليك بينما القراء يتهافتون، أنت لا تعلم أنني يومها راقبتك حتى ركبت إحدى السيارات بصحبة أحد المحبين.. حقدت عليه، اكتئبت، جلست على الرصيف أتأمل السيارة تبتعد بينما رغبة عارمة في البكاء تجتاحني “لست أبي وحدي كما اعتقدت”.

 

غيرة عنيفة تشبه تلك التي تجتاح طفلاً صغيرًا يرى شقيقه للمرة الأولى، ينال الاهتمام الذي اعتاد أن يحوز، كيف؟! ولماذا؟! أنت أبي، أبي وحدي وستظل كذلك، هكذا تحاشيت حضور أي حفلات توقيع لاحقة، تحاشيت رؤيتك، مزَّقت الخطاب، ومسحت الصورة، واكتفيت بذلك الخيط الواصل بين أب وابنته على أوراق في علاقة لا يعلم فاعلها الرئيسي شيئًا عن تفاصيلها.

 

في أيام الصيف الحزينة، خلال الإجازات الطويلة التي قضيت أكثرها بلا أصدقاء كنت أنت صديقي، في المدرسة أيضًا لم يكن ثمة أصدقاء، من المكتبة وإليها كنت أقطع الطريق إليك، في ذلك الركن من الدور الثاني بمكتبة مبارك العامة (مكتبة مصر العامة حاليًا) أجهزت على كل الأعداد الخاصة بالسلاسل العديدة، كنت أستعير القدر الذي أستطيع، أما تلك الأعداد الجديدة التي أخشى أن يستعيرها غيري، فكنت أخفيها بين دفات موسوعات العلوم الضخمة التي لا يلمسها أحد، كي أجدها لدى عودتي إلى المكتبة.

 

كنت أنانية جدًا فيما يتعلق بكتاباتك، ما زلت أشعر بالغيرة وأنا أرى تلك الصورة لك في حفل زفاف قارئة دعتك، أو تلك وأنت تحتضن شابًا أخبرك أنه جاء لأجلك من محافظة بعيدة، أشعر بغيرة لا محل لها على أبي الذي لم يعرفني، بينما لعب هو الدور الأكبر في تشكيل وجداني وتربيتي بكل ما تحمل الكلمة من معنى.

 

أربعون يومًا يا أبي، رحلت قبل أن تعلم من أنت بالنسبة لي، ولعلك لن تعلم أبدًا، لكنني بِت أعلم الآن أن ما أثار غيرتي من قبل هو كنزك الآن، ذلك الحب العارم لآلاف، اكتشفت أنهم مثلي تمامًا، يطمعون في أُبوة من نوع خاص، لعلهم لم يجدوها على أرض الواقع، بينما وفَّرتها أنت بكرم زائد، وبصورة مجانية، لم أعد أشعر بذلك الضيق أنني واحدة وسط جحافل يجلُّونك، لم أعد أغار على أبي، بل أشعر بالامتنان الشديد أنك يا أبي صنعت ذلك كله لأجلنا جميعًا.. شكرًا لك، فإرثك يُشعِرني بالفخر، وعملك يلهمني، حتى موتك ما زال درسًا لي.

المقالة السابقة“بسمة”.. سينجل ماذر من قلب المعمعة
المقالة القادمة5 حلول عشان شغلك مياخدش حق البيت
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا