يوم اليتيم.. هنعمل حفلة للوجع

691

أنا فاكراها كويس، بنت متوسطة الطول، لابسة قميص أبيض وبنطلون غامق، سمرا، شعرها خشن وعاملاه ضفيرة، ملامحها متحددة، واقفة ساندة على ترابيزة بضهرها، تانية رجل وفاردة التانية، باصة لنا بسخرية مريرة، خدت من إيدي كيس البسكويت ورمته وراها ع الترابيزة وبصتلي بتحدي.

 

الذكرى دي محفورة في دماغي من أيام ما كنت في ثانوي، ذنب معرفتش أكفَّر عنه أبدًا، عذري الوحيد إني مكنتش عارفة إنه ذنب، أنا كنت فاكرة إني بعمل حاجة كويسة.

 

الحكاية بتبتدي في المدرسة، ميس هدى الأخصائية النفسية قالتلنا على زيارة لدار أيتام حكومية، ضمن فاعليات الأنشطة اللي بتقوم بيها المدارس مع الجمعيات الأهلية، قالتلنا إنها هتاخدنا نروح دار أيتام كبيرة أوي وفيه بنات وولاد أصغر مننا وفي سننا، وهناخدلهم بسكويت ونقعد معاهم اليوم عشان إحنا كلنا إخوات ومفيش بيننا فروق، كنت مراهقة أنا بقى وحاسة إني ممكن جدًا أغيَّر العالم، وافقت وتحمست ورحت معاهم الزيارة، ودي كانت أغبى حاجة أشارك فيها في حياتي.

 

وقفونا طابور أول ما دخلنا من باب الدار، جت المديرة وقعدت تشرحلنا نظام الحياة هناك، وبعد شوية كلام اتحركنا في طابور نلف الدار نتفرج، كنا ماشيين في الممرات نتفرج ع البنات ونوزع عليهم بسكويت، كأننا ماشيين في متحف مثلاً، بنقتحم حياتهم ومديين نفسنا الحق إننا نتفرج عليهم ونبتسملهم ابتسامات مزيفة مفيهاش روح. البنت اللي فاكراها كويس واللي حكيت عليها في بداية كلامي كانت غضبانة، عندها حق؛ مين أنا عشان أقتحم يومها بالشكل المهين ده؟! ليه اديت لنفسي الحق أتفرج عليها وكأنها معروضة في فاترينة ولا في قفص؟! أنا زيادة عنها في إيه عشان أمد إيدي ليها بباكو بسكويت هي مطلبتوش أصلاً؟!

 

أنا فاكرة إن اليوم ده كان نهاية احتكاكي بأي نشاط طلابي في المدرسة وفي الجامعة، بس كل سنة في أول جمعة من أبريل بيتجدد جوايا إحساس الذنب، وأفتكر نظرة البنت السمرا ليّ، وأحس قد إيه اللي بيحصل ده غلط.

 

من منتصف مارس التليفزيون بيبتدي يذيع إعلانات يوم اليتيم، وإن كلنا لازم نروح نزور دور الاستضافة ونحسسهم بمعنى العيلة ونلعب معاهم ونعملهم حفلة كبيرة ونجيبلهم حاجات حلوة وألعاب، خلاص عملنا اللي علينا وريَّحنا ضميرنا وصرفنا شوية فلوس ونمنا مبسوطين، كمان أكيد نزلنا صورنا في اليوم ده ع الفيسبوك واتكلمنا عن معنى العطاء ومتعته، ووعدنا الولاد اللي زُرناهم إننا هنزورهم تاني، ومبيحصلش، بننساهم تمامًا، لحد نفس اليوم السنة اللي بعدها.

 

يمكن الأطفال الصغيرين اللي عايشين في دور الأيتام بيفرحوا فعلاً باليوم ده، حفلة وهيصة وهدايا وألعاب، هما مش فاهمين أوي ليه ده بيحصل في اليوم ده بالذات، المهم إنهم بينبسطوا. إنما تعالى كده نتخيل بنت مراهقة بيجبروها إنها تقابل ناس رايحين يزوروا الدار وتبتسم في وشهم وترحب بيهم، وتقبل كل الهدايا اللي بيمنحوها الزوار ليها ولزمايلها، وهما ميعرفوش اسمها، وميعرفوش هي حاسة بإيه دلوقتي، ميعرفوش هي تعبانة ولا كويسة، ميعرفوش إذا أصلاً كانت عايزة تقابلهم ولا لأ، هي دي حاجة عادية؟!

 

فيه دور أيتام خاصة بتمنع الزيارات اللي زي دي، بترفض إنك تروح تتفرج ع الولاد وتمنحهم عطاياك وتبتسملهم وتاخد بعضك وتمشي، المسؤولة عن الدار بتقولك بوضوح لو حضرتك عايز تتبرع اتفضل مكتبي سيب الفلوس أو التبرعات العينية وإحنا هنوصلها بمعرفتنا “إنما ولادنا مش للفرجة”، ده بيحصل بس في عدد قليل جدًا جدًا من الدور، إنما الدور الأهلية واللي تابعة لمؤسسات للأسف مبتعملش ده، عشان تقدر تستدر عطف الناس بالأطفال ويجمعوا أكبر قدر من التبرعات عشان يغطوا مصاريفهم.

 

يوم اليتيم عمره ما كان إستراتيجية صحيحة للتعامل مع الفئة دي من المجتمع، التعامل معاهم وكأن ملهومش حق في الاختيار وإنهم متاحين طول الوقت ده غلط، زيارات المدارس لدور الأيتام غلط، عايزين تفيدوهم فعلاً؟ اعملوا رحلة مشتركة بين المدرسة ودار الأيتام، الولاد يتعرفوا فيها على بعض بمزاجهم، واللي عايز يطلع الرحلة بس هو اللي هيروح. عايزين تفرحوهم؟ استضيفوهم في النادي الكبير بتاعكم يوم في الشهر، متاح ليهم فيه يستخدموا كل الألعاب وينزلوا البيسين ويعملوا اللي هما عايزينه في جو طبيعي. عايزين تدمجوهم مع المجتمع؟ اعملولهم حفلات تخرج كبيرة زي اللي بتعملوها لولادكم بالتنسيق بين الدار والمدرسة أو أي مكان يقبل تأجير قاعة يتعمل فيها مناسبة زي دي، إنما متوقفوش عيالكم طابور يتفرجوا عليهم أبدًا.

 

إنما كون المجتمع كله يجبر كل الولاد دول إنهم يحتفلوا بيُتمهم ده شيء مش طبيعي، إيه اللطيف في كونهم نزلاء دار أيتام ويدعو للاحتفال؟ ليه لازم كل سنة الولاد دول يحتفلوا إنهم ملهومش بيت ولا عيلة ولا أب وأم؟ تخيل كده لو ربنا أراد وأجلك حان وحد قرر إن كل سنة في ذكرى وفاتك هياخد ولادك يعملهم حفلة احتفالاً باليوم ده، هتوافق؟ حتى لو مفيش حفلة، لو قرر قرايبك إن كل سنة في ذكرى وفاتك هيروحوا يزوروا ولادك ويجيبولهم هدايا تعوضهم عن عدم وجودك، شايف ده شيء منطقي؟

 

عايز تتبرع وتساعدهم اعمل ده، من غير ما تجبرهم يضحكوا على وجع عمرهم، مفيش أي حاجة مفرحة تدعو للبهجة والرقص والتنطيط في يوم اليتيم، دي مش دعوة للتشاؤم ونبذ الفرحة والخير، أبدًا، دي دعوة لاحترام مشاعر ولاد صغيرين عمرك ما هتفهمها لأن عمرك ما حسيت أحاسيسهم ولا كنت في مكانهم، وعلى رأي المثل الشعبي “ميحسش بالنار إلا اللي ماسكها”.

المقالة السابقةامرأة كلها قلب
المقالة القادمةماما خديجة.. وفي قول آخر “أم الثوار”
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا