وفي ابتلاء الله حب

681

 

دينا

21/9/2017

لديَّ في رف مطبخي كوب أنيق، له ذلك الطابع الأندلسي الذي يأخذ لُبي كلما طالعَت عيني النقش والصنع بكل ما فيهما من جمالٍ، ملون بالأبيض والأزرق. مع كل رشفة منه كان يأخذ روحي معه لحلم زيارة مدينة “شفشاون” في المغرب، المدينة التي احتلت صورها هاتفي، بكل الزرقة التي نقعت فيها قلبي حتى بات أزرق أصيلاً، وكأنني خُلقت ذات يومٍ به هكذا.

 

ربما قوِيَ التعلق به مع هوى النفس وغرامها بالقهوة ورائحتها الحلوة، التي دعوت لها من قلبي أن يحفظها الله لي وكأنها صديقتي. صارا متلازمين لي أينما حللت، مسترخية هاربة من روائح الملل والإرهاق، أنسحب داخل الكوب مختبئة مستقرة.. كان يؤنسني الضوء الأصفر الخافت الذي أحبه، لهذا اصطحبته معنا في رحلة هادئة إلى هاتفي، لنرى “شفشاون” قبل النوم.

 

حياتي لها إيقاع ثابت جدًا، وأحلامي مطمئنة أرغب في استمرارها على هذا النحو، لا تناوشني وتعكرها تقلبات قدرية مباغتة.

***

أجلس أمام طبيبتي وعيناي متعلقتان بالخاتم النحاسي في إصبعي “افرح يا قلبي”.. هكذا مكتوب على دائرته التي ألمسها من وقت لآخر بشيء من التوتر. أغوص في نبرة صوتها الطيبة التي تحنو لتنزع شيئًا من الحزن والوجل مسَّا تعابير وجهي.

 

تكتب الكثير من العقاقير والكثير من وخزات الإبر الممتدة لعدة أشهر، وتأخذ مني الكثير من المُتع في جلسة واحدة. تحرمني القهوة إلى الأبد، ترص معها السكر والمخبوزات والحلويات وأنواعًا محببة جدًا من الجُبن، وتُلزمني بأنواع طهي صحية جدًا ومناسبة لمعدتي المتعبة وحالتي الصحية.

 

تطيب خاطري بالأمل في الشفاء، حتى وإن طالت مدة انتظاره، فأهز رأسي موافقة دون أن أنبس بكلمة، وأذهب إلى المنزل باكية مذعورة من تعب لم أكتشفه سوى الآن بعد سنوات من استهتار لم أكن أدركه أو أدرك عواقبه، التي طفت على السطح بشكل مفاجئ ومزمن.

لتلك اللحظة حين أتقابل مع الله أسأله بهَمٍّ: “أتبتليني أم تعاقبني يا الله؟”.

 

منذ مدة ليست بقصيرة لم أعد أبصر طريق الله في قلبي، بعد تعلق شديد وقرب اختبرته بهالة مضيئة من الوصل والقبول، ابتعدت كثيرًا وأنا مذهولة من هذا التحول العجيب الذي أصابني.. أنا التي تذوقت حلاوة الالتصاق به والسير في معيته، نوره الذي غمرني به في لحظة صادقة بيني وبينه، فسارت روحي في رحاب حبه.

 

تدريجيًا جاء كل شيء، اقتراب بالغ ثم فتور، ثم فتور أشد، حتى انعدم الخيط السحري الذي كنت أستشعره بيننا، وحين يُغالبني الحنين أذهب إليه وأسأله القرب والوصل من جديد، أرجوه أن يضع يده على رأسي فينسل نوره إلى داخلي ويتقبل توبتي ويقبلني.

 

أفتش عنه في قلبي وفي دفتر أوراقي وفي صلواتي الباهتة. تأتيني أحلام مُقبضة جدًا وتتحقق بغرابة، وتشتد الظروف السيئة وتحاوط أسرتي، أسأله أن يزيح الغم وأبكي بين يديه حالي، وأخبره من جديد أن يقبلني.

 

أفتح خزانة المطبخ وأرى الكوب الأندلسي والقهوة وأكياس السكر، وهناك المعجنات الرائعة بالجُبن وأخرى بالعجوة.. ألملم كل شيء من أمام عيني، أفرغ الثلاجة من كل محتوياتها المحببة: برطمان الشوكولاتة الخيالي، شرائح الديك الرومي المدخنة، مخللات الزيتون والليمون.. أغلق عليها حقيبة بلاستيكية وأنا أنظر إلى سماءٍ بعيدة وأتمتم “يا رب”.

 

يمر الشهر تلو الآخر.. لا تحسُّن، وتُرص الممنوعات فوق بعضها بعض أكثر، لتصير قائمة طويلة ألصقها على باب الثلاجة لأتذكر. وإلى أصابع أقدامي تصل نفسيتي انهيارًا وبؤسًا.. أسأله حكمة الصبر والتأقلم ولطفًا يرد به روحي إليّ.

 

وفي نوبة شديدة من التعب وصلت إلى حالة من اليأس في التحسن الذي انتظرت منه القليل، وحينها تصورت من الألم أن الله يعاقبني على بُعدي وعلى زهدي في روح العبادة وإتقانها، وعلى الدرب الذي فقدته بعد اكتشاف، تصورت أنه لم يعد يُكنُّ لي حبًا، وأنه لم يعد يعبأ بتلك التي خلا قلبها منه في نوبات فاترة من شغف اللقاء، وخفوت وهج الإيمان من شدة الاستسلام.

 

ولكنه يحنو ويعفو بلطف.. يأخذ روحي برويَّة ويطيب آثار الوجع، ويخبرني كعادته بحكمة استرداده لي بالوهن وقلة الحيلة، يعطيني من الفرص الكثير للاقتراب، ويضع في سكة الاستكشاف صُحبة تُعرِّفني عليه وكأني أراه للمرة الأولى.

 

ترنو كلمات صديقتي إلى قلبي تمحو الاستياء والحيرة، تقول لي: “الله لا يعاقب.. الله يبتلينا بقدر من حبه لنا، يهذب أخطاءنا.. لا يبخل علينا بفرصة أخرى ليُرينا دربه الذي أضعناه في لحظة عتمة.

أتعرفين؟ تأتي كلمة رب من التربية.. الله يحسن تربيتنا بالابتلاءات، يسمع شكوانا وطلبنا في السند عليه، لا يكرهنا أبدًا.. لا يعاقبك الله بالمرض، هو فقط يريدك من جديد، فاذهبي”.

 

كنت مدركة لكل هذا قبلاً، ولكني كنت بحاجة إلى سماعه من نفسٍ طيبة تحبني، لا توصمني بالذنب ولا تُخيفني من جزاء هجر طريق الله.. فقط تأخذ بيدي إليه حتى نتلاقى أنا وهو مجددًا، وأطلب منه مغفرة صادقة وصبرًا على الابتلاء وتقبلاً لحكمته في توتر إيقاع حياتي.

***

فرصة ثانية من الله تُزهر فكري وتجدده وتعيد صياغة معتقدات بالية تخص معاقبته وعدم قبوله للخطائين، للجانحين عنه، للمترفين في حياة زائلة، للذين يقلع استقرار حياتهم من الجذر ويجعل عاليها أسفلها، للتائهين بعد اقتراب، للمُبتلين بالشقاء وزوال الراحة.

الجميع تحت نظرته العطوف، يطوي جناحه ليضمهم، واعدًا بالمزيد من الفُرص، والمزيد من الغفران والاحتواء والشمولية.

 

لم أتحسن كليًا من المرض الأخير، فقط تقبلت ما أصابني واطمأنت خلجات نفسي المضطربة، وأحسست أهم ما أحسست أني أنظر إلى كل الناس باختلاف مُريح، وأن جرعة قهوة يومية في كوبي الأندلسي لا ضير منها، وتناول قطعة من المخبوزات من حين لآخر هي لحظة جديرة بالاحتفال الصاخب.

وأن في ابتلاء الله فرصًا جديدة وحبًا وتدبرًا حكيمًا.

المقالة السابقةفي العيد.. قدمي أشهى وصفات الكفتة
المقالة القادمةلماذا لم أصبح أمًا جيدة؟

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا