وإذا الدنيا كما نعرفُها

825

بقلم/ آية إبراهيم

 

ليلة صيف هادئة يحمل هواؤها رائحة ذكريات، جعلتني أرتبك بعض الشيء.

نفس التوقيت ومنذ 4 سنوات، كان كل شيء عاديًا، حياتي هادئة إلا من تفاصيل صغيرة تناسب المرحلة حينئذٍ، ولم أعرف ما الذي حدث فجأة.

 

بدأ كل شيء في التغيير، كانت المرات الأولى من الفقد الحقيقي، لم أفقد أشخاصًا أحبهم، لكني فقدت شكل حياتي التي أعرفها واعتدتُ عليها لسنوات طويلة، صار كل شيء جديدًا، ولم يكن عليَّ سوى التأقلم، لكني لم أستطع، وفضّلت الهروب بكل جوارحي، تحديدًا عقلي. النوم لساعات طويلة كان رفيق المرحلة، المرة الأولى التي ألجأ فيها لاستخدام دواء مُهدئ يُساعدني على النوم، وكانت تلك التجربة هي الأسوأ على الإطلاق.

 

عليَّ توديع حياة المدرسة بكل ما فيها، بعدما كانت الثانوية العامة هي المرحلة الأجمل والأصعب في نفس الوقت، كعادة كل شيء يحلو عندما يُوشك على الانتهاء، الرغبة في الخلاص من ضغط العام كله والخوف من نتيجة ما بذلناه خلاله، أحلامنا الوهمية المقرونة بالمجموع الذي سنحصل عليه والكليات التي رغبنا الالتحاق بها، صور تذكارية كثيرة مع أشخاص جمعتنا بهم ذكريات جميلة، نُريد أن نحفظ وجوهًا دامت عِشرتها لوقت طويل، والآن وهنا نفترق فقط لأنها سُنة الحياة.

 

لا بأس.. حاولنا جعل تلك النهايات سعيدة. الحنين إلى ما سنتركه والخوف من المجهول توّج شعورنا حينها، لكن سارت الحياة كيفما سارت وأخذت مِنّا الأحباب في طريقها، وبعد وقت قصير ومع بداية حياتي الجامعية التي لم أتقبلها بسهولة كان عليَّ مغادرة البيت الذي عشت فيه أعوامي الثمانية عشر والانتقال لبيت آخر جديد.

 

لم أنتبه لتوديعه ولم أقف كثيرًا عند تلك اللحظات، وكشخص يتعلق بالأماكن مثلي بالتأكيد ترك ذلك ندبة في داخلي، لم أدركها إلا بعد نحو عام، حين مررت أمام منزلنا القديم ونظرت إليه، فوجدت كل شيء كما تركناه، وللأسف لن أدخله لأن عائلتي هناك في البيت الجديد، الجيران يُسلمون عليّ في لهفة، أتساءل متى وكيف لم يعُد هذا مكاني!

 

أدركت أن ثمة مرحلة من حياتي انتهت، وأن حياة جديدة بدأت، عليَّ أن أعيشها شئت أم أبيت، وأن هروبي جعل إدراكي مُتأخرًا كثيرًا، الحياة تسير كعادتها أنا فقط من توقفت.

 

الآن أنا هنا.. في عامي الثاني والعشرين، وثمة شعور مُشابه يقترب مني، أكتب إليكم من داخل غرفتي بالمنزل الجديد، الذي لم أعرف حتى الآن هل أحبه أم لا، على كل حال اعتدت عليه، وصارت غرفتي فيه أكثر الأماكن المُحببة إلى قلبي، تضُج أركانها بذكريات كثيرة أصنعها بنفسي، لكن عليَّ توديع شيء ما من جديد، أيام قليلة وتنتهي حياتي الجامعية وأطوي فصلاً آخر من حياتي، ربما لم أحبه، لكن رغمًا عني يحمل من الذكريات ما ينتفض له القلب.

 

بالمناسبة، لم يكُن الحرم الجامعي مكاني الُمفضل إطلاقًا، ولو بقيت هناك أعوامًا أخرى لن يكون، فقط السنة الأخيرة كانت الأجمل، مرة أخرى -كعادة كل شيء يحلو عندما يُوشك على الانتهاء- دوائي الوحيد في سنوات الجامعة أصدقاء أعادوا لي معنى كلمة أصدقاء بعدما كدت أفقده، داوت أحضانهم ندباتي القديمة، عرفت عيناي بهم دموع الامتنان والأمان مرة أخرى، أعادوا إلى حياتي شغفًا كنت قد نسيته، اجتمعنا على أننا لم نُحب المكان ذاته، لكن طالما أحببنا كوننا معًا فيه.

 

الخوف من القادم المجهول يعود من جديد، النُضج لم يحمِني من شعوري ذلك، أعترف، سأفتقد تفاصيل كثيرة ولن يبقى معي سوى حنيني للأماكن والأشخاص.

يتداخل حديثي لنفسي بأنهم سيبقوا مع صوت أم كلثوم وهي تقول “وإذا الدنيا كما نعرفها.. وإذا الأحباب كلٌ في طريق”.

 

وإذا الأحباب كلٌ في طريق

 

 

 

المقالة السابقةأفضل طريقة التوفير والادخار من مصروف البيت
المقالة القادمةحكايتي مع الختان
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا