وآخرتها؟!

672

عن تلك الغصة التي تشعر بها وأنت تتابع نجاحات الآخرين، ذلك الشعور بأن الأمور تسير بشكل جيد للغاية عند الجميع، إلا أنت، أنت وحدك كنت ولا زلت تعاني دون فائدة، كأنك تحفر في الماء.. العمر يمضي، بسرعة ودون استئذان، وكل الأحلام التي كنت تعد نفسك بتحقيقها وتشعر أنها سهلة للغاية لن تتطلب منك إلا بعض الوقت والتركيز “لاحقًا”، لم تعد متاحة، الآن أو لاحقًا.

“كل الناس اتجوزوا وخلفوا وكوِّنوا أسرة إلا أنا”، كتبتها شابة أعرفها عبر صفحتها الشخصية، على موقع فيسبوك، بصراحة متناهية، غير عابئة بالنظرة التي قد تنالها باعتبارها حاقدة وحسودة، تنظر لما في يد الغير، هذا ما يدور في عقلها حقًا، دون تزييف ودون ادِّعاء بطولة.

لم أشعر بخوف منها ولا حتى شفقة عليها، الأمر لا يختلف معي ولا أي أحد آخر، تذكرت فورًا تلك الجملة التي ألقاها الرجل في وجهي “حضرتك فوق السن”، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها جملة من هذا النوع، حين ذهبت لأستفسر عن إمكانية التحاقي بمنحة تعليمية مجانية، فوجئت أنها لم تعد متاحة لأمثالي ممن تخطوا الـ28 عامًا، لن أنكر تلك الغصة والشعور اللحظي بالضياع، فرصة أخرى لم تعد متاحة.

وآخرتها؟! أرددها مع نفسي مرات ومرات، فلان حظى بجائزة عظيمة، وفلان سافر في رحلة جميلة، فلان حقق مشروع أحلامه وفلان الآخر أصبح رئيسًا في نطاق عمله، لتذكرني مع كل مرة بأنني ما زلت هنا، أضيع المزيد من الوقت، ولا أحظى بفرص كافية تضعني في المكان الذي أراني أستحقه في يوم من الأيام.

“الرضا والصبر”.. كلمات اعتدت سماعها في طفولتي لم يعد لها مكان في حياتي الآن، لم أصدق رد فعلي حين سمعت أحد شيوخ إذاعة القرآن الكريم يتحدث عن ضرورة الصبر ضاربًا المثل بسيدنا أيوب، فجأة شعرت باختناق؛ كيف احْتَمَل هذا الرجل كل هذا الوقت الذي ضاع منه؟! كيف احتمل المرور الثقيل، انتهاء الأيام دون إنجاز يذكر، مزيد من المرض والفقد والألم؟! ما كل هذا؟! لماذا يجب عليَّ أن أحتمل أيًّا من هذا في سبيل  الصبر؟ سؤال زاد من ألمي وشعوري باللا جدوى.

الغصة التي أتحدث عنها لا تتعلق بالحسد، أو تمني زوال النعمة من أحد، هي أيضًا ليست غبطة، هي فقط شعور عارم بالنقص والضياع، ومضة قوية تظهر من وقت لآخر، تؤلم عينيك لتُذكِّرك أنك لست راضيًا بما لديك، فلانة عمرها أكبر لكن مظهرها الخارجي أصغر وأصبى من تلك التي أراها كلما نظرت في المرأة، يجب أن أهتم بنفسي، فلان حصل على منحة تعليمية، يجب أن أعطي اهتمامًا للجانب الأكاديمي، فلانة بيتها مرتب أكثر وتتقن الطهي أكثر مني، لقد أعدت بالأمس سينابون رائع لم أفعل مثله من قبل، يجب أن أتقن الطهي… وهكذا.

قجأة يصبح لديك قائمة طويلة من الـto do list، تتحول مع الوقت إلى “قتب” يعوق حياتك ويؤلم معدتك كلما تذكرته، على قائمتي الخاصة، تعلم الزراعة، وتعلم الطهي، وتعلم التفصيل، وتعلم الصينية، هذا نقطة من بحر مما أنتظر من نفسي تعلمه بينما لم أحقق منه إلا أقل القليل، أتأمل قائمي بينما يحرز الآخرون نجاحاتهم، تنتهي بي الحال مع حالة الجلد العنيفة للذات مع تسلية نفسي بوصفي بالـ”فاشلة” التي لا تجيد شيء، ليعود السؤال ذاته ليتكرر “وآخرتها؟!”.

كثيرًا ما أنسى أن الإنجاز العظيم الذي “زغلل” عيني لدى الآخرين، ربما -بل غالبًا- هو الوحيد لديهم، هم لا يجيدون إلى جانبه الزراعة أو الطهي أو خلافه، تمامًا كما لا تعلم الشابة الغاضبة من عدم تكوينها أسرة بعد أن الهوايات والمهام الخيرية العديدة والفريدة من نوعها التي تجيدها لن تتمكن من إنجاز ثُمنَها إذا ما قُدِّر لها الزواج والإنجاب، كما أن هؤلاء الذي يكوِّنون أسرًا لا يحظون جميعًا بذلك الشكل الرائع للأسر السعيدة التي تحملها صفحات الإنترنت.

أنا شخصيًا أدرك في أوقات عديدة أن في حياتي ما يُشعِر الكثيرين بغصة عدم التحقق والإنجاز تلك، كما أنني أوقن كالكثيرين أن “محدش بياخد كل حاجة”، و”مفيش إنسان كامل”، و”كل حاجة بناخدها بنخسر قصادها حاجة” لكن لماذا لا يخفف هذا من شعورنا السيئ؟ المسألة تخرج في أوقات كثيرة عن السيطرة، البعض يعجز عن النوم والبعض الآخر يصيبه الاكتئاب.

هل الحل أن نكف عن الهلع ونشعر قليلاً بقيمة الأشياء الطيبة -وإن كانت قليلة- لدينا، وأن نتذكر دائمًا أن الشعور بالنقص والفشل أيضًا ليس سيئًا في كل مرة؛ لولاه ما شعرنا بحاجتنا للتحرك للأمام؟ ربما، لكن الأكيد أن تلك الغصة لا تذكرنا بضرورة التقدم فقط، لكنها عادة ما تكون إشارة قوية على وضع خاطئ نعيشه ونواصل الخوض فيه دون توقف، ربما تلك الغصة ليست سيئة بهذا القدر، ربما هي إشارة حقيقية تقول “كفاية” علينا أن ننصت لها قبل فوات المزيد من الوقت.

المقالة السابقةالوعي يُغيرنا.. يُغيرنا تمامًا
المقالة القادمةالشوفان مش للدايت بس.. 3 وصفات جديدة بالشوفان
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا