نوستالجيا ولا تروما

535

فيه مواقف في الحياة لمَّا تمر بيها؛ بيعدِّي قُدَّام عينيك شريط كامل من الذكريات. وعلى حسب الموقف ده -أنت وحظك بقى-، بيكون إحساسك بإيه وقتها. إما الموقف ده هيفكرك بذكريات سعيدة مليانة بأحاسيس حلوة، وتفاصيل تلمس القلب؛ وده اللي بنسميه “نوستالجيا”.
أو الموقف يفكرك بألم قديم يمكن عامل فيك ندبات لسه بتوجع لو قربنا منها، وهنا مبقتش دي نوستالجيا. لكن يمكن على حسب شدّتها نسميها “تروما”، أو ذكرى الصدمات. وهي صدمة من موقف قديم بيتكرر في مرات، فبيرجع نفس الوجع أو أقل شوية.

وبين النوستالجيا والتروما، تتشكّل حياتنا زي العجينة!

لمَّا بتعمل عجينة بتفضل تزقّ من هنا، وتدوس هنا، وتظبط من هنا؛ لحد ما تتأكد أنها اتعجنت كويس. ولو سألت مامتك هتقولك علامة العجن المظبوطة أن العجينة تبقى ملساء؛ لا سايبة، ولا ناشفة فتتشقق، من الآخر مرنة وبتأخذ وتدّي.

الماضي بيشكّل جزء كبير من حياة الإنسان؛ الماضي بيشكّل خبراتك، وطريقة تفكيرك، ومخاوفك. لكن كمان بيشكّل ذكرياتك، والحاجات اللي بتحن ليها، والأشخاص اللي سابوا من بصماتهم في قلبك وعقلك.

أنا بصدّق أن زي ما ماضينا بيحمل مرات ذكريات سلبية، لكن أكيد كان فيه لقطات إيجابية. بتختلف النسبة دي من شخص للثاني طبقًا لماضيه كان عامل إزاي. ففينا اللي الماضي بيشكّل ليه دفا وونس وود وقُرب وتراحم. وفينا اللي الماضي بيمثّله وجع وخزي واحتياج.

يعني ببساطة كده، مفيش حد فينا ملهوش ماضي! .. جُملة مشهورة قوي وحقيقية. من غير ما تنوي ولا تقصد ولا تركز؛ الماضي هيحدد جزء كبير من ملامح مستقبلك. بس ممكن جدًا بنِيَّة مسبقة وقصد وتركيز تحدد وتختار منه اللي يأثر على حياتك بشكل إيجابي، أو تستسلم وتصدق اللي اتقالك ومعظم تأثيره سلبي.

  • ذكريات زمان الحلوة

رغم أني كثير بتوجع من حاجات حصلت زمان، إلا أني بقى لي وقت عن قصد بحاول كده أسرح مع النوستالجيا. أدور وأحاول أفتكر ذكريات حلوة بتلطف خيالي وتهون مرات الواقع الصعب حتى لو افتكرتها وسرحت فيها عن قصد. لما بحاول أفتكر الذكريات الحلوة دي غالبًا بترتبط معايا بالحواس الخمسة!

فاكرة ريحة البطاطا المشوية اللي ماما عاملاها في الفرن، في عز شتاء وبرد يناير؛ ايدي اللي وجعتني من شنطة الأكل بتاع أسبوع الجامعة، وأنا رايحة من بيتنا لسكن الطالبات في محافظة ثانية، وإزاي كنت شاطرة وقد المسئولية ويعتمد عليّ؛ صوت ضحكتي العالي بعد ما عنينا دمّعت من الضحك واحنا قاعدين 8 بنات في أوضة أصلًا تكفي اثنين، بنتكلم ونهزر ونضحك.

سهرنا للفجر أنا وأخويا نرغي ونتشارك ونفضفض، فاكرة صوت الأغاني اللي كنت بحبها في التاكسي وكافتيريا الجامعة، وصوت المزيكا والألحان الحلوة في الكنيسة وأنا معدية من قدامها. فاكرة زيارات أصحاب بابا وماما وعيالهم اللي كانت مليانة ضحك ورغي وأكل. فاكرة حكاوي البنات اللي مليانة مشاعر ورومانسية وأحلام.

فاكرة مسكة ايد ابني الناعمة، وهي بتمسك في صباعي. وبدل ما هو يتطمن بيديني حنان ملهوش مثيل. فاكرة طبطبة ماما عليّ وأنا بعيط من حاجة مضايقاني وهي بتعيط معايا.

  • صدمات زمان الموجعة

معرفش إذا كان فيه حد ماضيه كله حلو ولّا لا؟ .. معرفش إذا كان حد قدر ينجو من ذكريات بتوجع وتطيّر النوم من العين، ويمكن كمان تطلعلك في الأحلام!

بس أنا شخصيًّا ماضيّ فيه كثير من الذكريات دي، مواقف كان فيها احتياجات مختلفة، جروح من ناس أو عن طريقهم، رفض من ناس، أو تهكم وسخرية ورسائل تحمل أكثر من معنى من ناس ثانيين.

فاكرة كويس رسائل معينة وجُمل اتقالت لي من ناس، كان محتواها بيقول أني مش شبههم، أقلّ منهم؛ وبناءً عليه لازم تكون أحلامي درجة ثانية مينفعش أفكر وأستنى حاجات طبيعية زي باقي البنات لكن حاجات كسر! .. يعني -حياة فرز ثاني- إن جاز التعبير.

أشكر الخالق والوهاب -سبحانه-، فأنا دلوقتي أعيش حياة جيدة، بها ما يكفي ليكذب هذه الجمل والنبوآت. كل ما أفتكر الرسائل دي وما تحويه من صدمات أمتنّ وأشكر وينبض قلبي بالحياة. وهذا ما يجعلني أشك في صدق الأفكار السلبية حينما تهاجمني.

مش بس بأشعر بالامتنان للي أنا فيه وعليه، لكن كمان بألاقيني فاهمة كويس قوي ألم جروح الناس الثانيين، متفهمة صراعاتهم ومخاوفهم واحتياجاتهم اللي تاعباهم. قادرة أسمع وأحس باللي ورا الكلام والدوافع والأفكار.

بحب جملة في غنوة بتقول “حتى الجراح شقّت في قلوبنا للنور فتحات”، يعني اللي قولنا عليه ها يبوّظ حياتنا، مش بس عدّى لكن كمان وسّع قلوبنا من جوَّا، خلّانا متعاطفين أكثر، وجوَّانا براح أكثر.

مش ناسية ذكريات الوجع، لكنها النهاردة ممتزجة براحة الشاكر الراضي المُمتنّ، متمسكة بعطف وكرم الله، وعشمي في لطفه المستمر.

بشجعك تبص على نفسك دلوقتي، وتشجعها أن بكرة ممكن جدًا يكون أحسن من ما أنت فاكر، لسه القصة مخلصتش، موقفتش لحد الفصل ده.

اسرح بخيالك مع ذكرياتك اللطيفة الدافئة لكن لو نطّت قدامك ذكريات الوجع اشكر وامتن أنك عايش رغم عنها، ويمكن تكون في أحسن حال مما كنت فاكر.

 

 

المقالة السابقةلتصنع بيتك بداخلك

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا