مفترق الطرق

1452

 

بقلم/ هاجر حسن عدس

 

لم يكن بيني وبين الموت سوى خطوة، بل ربما أقل، رأيته يحوم حولي، كانت صرخات الناس حولي بأن السيارة ستشتعل هي أطول دقائق مرت عليَّ.

 

صراع بين قلبي الذي كاد أن يتوقف وعقلي الذي يحاول أن يخرجني من العربة. يد الله كانت فوق يدي، أدركت معناها حين ألهمني الله حكمة التصرف بهدوء والخروج ببطء من بين الزجاج المتناثر حولي، حين صرخت في الجموع المحيطين بألا يحركوا العربة إلا حين أخرج منها. كان الله يمدني بقوته.

 

حين أتذكر التفاصيل الغائب معظمها، أشعر وكأن شخصًا آخر كان هناك يشبهني ولكن ليست أنا، كالشاهد كنت هناك أرى وأراقب تلك الفتاة التي تعجب كل من مر من هناك من قوتها، ومن أعجوبة نجاتها. كانوا يترحمون على من بداخل السيارة أمامي ليردد الناس “عايشة أهي” فيهللون ويذكرون الله، ولا يعلمون أن الموت كان هناك، حولنا جميعًا، ربما كان يهدد وربما كان سيأخذني حقًا وأوقفته دعوات أمي أو خير أبي.

 

زاغت نظرات أمي محدثة الله وهي تحتضني بعدما هدأت “إيه العبادة يا رب اللي بعملها ونجِّتها؟ قولي عشان مبطلهاش يا رب”. أجبتها دون تفكير “جبر الخواطر يا أمي”، فلم أرَ أحدًا يجبر الخواطر وبطيب القلوب كأمي، ولا عبادة تسعد الله قدر جبر الخواطر. نعم أوقن أن كل كلمة طيبة، وفعل صادق وابتسامة طمأنينة.. ودعوة من القلب كانت سببًا في أن يعطيني الله فرصة أخرى للحياة.

 

لحظات ترى فيها أين أنت. ثوانٍ تلخص عمرك كله، تذكرك أن الموت هنا، ليس ببعيد بل أقرب مما نتخيل، منذ موت صديقي “حازم” ومن قبلها وأنا أرى الدنيا فانية، لا قيمة لها، تموت القلوب وأصحابها لا يزالوان على قيد الحياة، وأموات تحيا أرواحهم في قلوب من أحبوهم. أردد دائمًا أن الموت قريب وينخلع قلبي بموت القريب والبعيد، لكن هذه المرة أراد أن يلوح لي بيده “أنا هنا فهل أنتِ بقلب وروح يسمحا لكِ بلقاء الله؟”.

 

رأيت ردود أفعال من حولي حين علموا أنهم كادوا أن يفقدوني، حين فكروا أن ربما لن يروني مرة أخرى، بقدر الحب الذي لم أتوقعه، رأيت أيضًا من الحقد والنفاق ما يثير الشفقة.

 

أدعو دومًا بنور القلب والبصيرة، فأراني ربي القلوب بنور قدره، بقدر من خافوا وانتفضوا كان هناك من تمنَّى ألا أخرج منها، فلكم من نيتكم نصيب يومًا، وهناك من أنكر كل شيء “ستكون بخير”، أنكر انقباضة القلب بل كاد أن يعنفه على خوفه، لم يكن يقينًا بقدر إنكار لفكرة الفقد. لكنني قد أُفقَد وإن كان لم يحدث حينها فيومًا ما، فالإنكار حينها لن يفيد، أُذكِّر نفسي بهذه الحقيقة كثيرًا، وربما كانت اختبارًا لعدم الإنكار لنفسي ولغيري.

 

نظل ننكر حتى نصطدم بأنفسنا وتجلدنا قسوة المواجهة حينها، وتراكم ما ظننا أننا تخطيناه.

 

حين رحل “حازم”، غضبت، رفضت موته بشدة وانهارت قواي، ماذا فعل هذا الشاب الخلوق الموهوب الذي كان متمسكًا بالحياة؟! فأجابتني صديقتي ومرشدتي “أتم رسالته على الأرض”، أجبتها بغضب: “إزاي ده يموت والناس اللي قرفانا تعيش؟!”.

فأجابتني بيقين: “إنتِ مش ربنا، دي حكمته، هو خلص رسالته، همَّ لسة معملوش اللي جايين عشانه”.

 

لا أنكر غضبي لفترة ليست بقليلة، كلما فكرت فيما دار بيننا حينها، لكنه كان أول جملة رددتها حين سألت نفسي بعد الحادث “لماذا لم أمت؟” لأنني لم أتم رسالتي بعد. الإجابة ذاتها التي لم ترُق لي حين سمعتها، كل فكرة، حدث، فقد رفضته، عاد لي بشكل أكبر، كمطاط أظن أنني قذفته بعيدًا ليعود بقوة القذفة يرتطم بوجهي وقلبي بقوة مضاعفة.

 

كل شيء خشيت أن أفقده، فقدته بوجع، كل حدث رفضته عاد بتفاصيل أكثر من تحملي.

 

قررت صديقتي ومرشدتي أن تنبش في ذكرى حادث انقلاب السيارة بي، رغم أني لا زلت أشعر بآلامي الجسدية والنفسية. سألتني: تفتكري إيه رسالة ربنا ليكي؟

وأجبت: معرفش.

– فكري.

– جايز عشان أعرف إن كل الناس دي بتحبني!

– دي حاجة باينة وواضحة مش محتاجة يبينها بالشكل ده، إنتي اللي مش شايفة مش أكتر.

– طيب يمكن عشان يعرفني إنه قريب مني وحماني.

– لا، دي حاجة إنتي المفروض تكوني عارفاها برضو.. الرسالة إنك تغيري الطريق، الطريق اللي بيوديكي في نفس السكة المقفولة، الطريق الضلمة اللي كله وجع وخوف وقلق.

 

انتهى حديثنا، تركتها وكأن طاحونة هواء دارت برأسي، إذًا أين الطريق؟! أي طريق عليَّ أن أسلكه؟

لتعود الإشارات تتوالى مرة أخرى مشيرة بعلامات نحو الطريق، يرسل الله لي إجابة بشكل صريح ومباشر، سيرى من هذا النحو، من ذلك النور الذي أنرته لكِ من قبل وضِعتِ فيه بقلة الصبر.

يا الله وما يدور؟ يا الله الإشارات لا تتماشى مع الأحداث!

مجددًا: سيري هنا.

 

وحينها أيقنت أن مودةً من القلب خير من حب زائف، وأن طمأنينة دائمة أبقى من سعادة مؤقتة باهتة، وأن الوعد إن لم تكن بقدرِه لا تتجرأ بقوله. أيقنت أنني في مفترق الطريق، لا زلت أرهب العلامات فيه، أدركها بعد وقت، كُتب عليَّ فيه الصبر، فاللهم إجابات لكل ما يدور بقلبي، وصبرًا ورضا لا أشقى بعدهما أبدًا.

 

يا الله الإشارات لا تتماشى مع الأحداث

 

المقالة السابقةكيف نستخدم الحب كأداة للسيطرة على أطفالنا؟
المقالة القادمةهذا هو الحب
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا