مشاهد من حياة مريضة بالاكتئاب

913

مشهد 1

ظلام دامس يغرق فيه بصري، تتلاشى حدود الرؤيةعلى جانبي عينيّ فيحيطني كشرنقة، ظلام التأمل لساعات طويلة في سقف الغرفة يمتد ويتسع حتى يبدو أقرب لفضاء كامل، مُقيَّدة على فِراشي لا أستطيع تحريك ذراعيّ ولا ساقيّ، أحاول التأوَّه بصوت عالٍ فلا يخرج من حلقي سوى همهمة فارغة.

أستسلم للظلام، فيطبق على قلبي أكثر، يلتحم بي، يسكنني، أو أذوب أنا داخله، أستعيد القدرة على الحركة والكلام، لكن يظل قلبي مثقلاً بما اقتحمه.

 

مشهد 2:

أتأبط ذراع والدي ونسير معًا في الشارع المزدحم وقت خروج الطلاب من المدارس، تضايقني أشعة الشمس، فأسأله أن نوقف سيارة أجرة تحملنا إلى المنزل، يصر على التمشية، “أفيدلي” كما يقول.

ينظر أبي إلى وجهي الشاحب وعيني المحاطتين بالهالات السوداء، يتذمر من منظري، ويطرح سؤاله الخالد: كيف تحزنين ولديك طفلة رائعة؟!

 

أحاول شرح الفرق بين أشجاننا العادية اليومية، واكتئاب مرضي لا يمكن التحكم فيه. يرفض أبي ما يسمعه إشفاقًا عليّ وحبًا، يصر على أن ابنته لا يجب أن تسمح للاكتئاب أن ينتصر عليها، يصر على أنني أقوى من ذلك.

أصمت متعبة من حديث متكرر بلا فائدة، أتمنى لو يتوقف عن الحديث وأن يتمسك بيدي أكثر، يضغط على كفي فأشعر أنه موجود إلى جواري وكفى.

 

مشهد 3:

أجلس أمام الطبيب أتأمل سمكة برتقالية صغيرة تسبح في حوض صغير، يسألني عن أحوالي فلا أعرف كيف أبدأ، يسأل أسئلة أكثر تحديدًا: هل واظبتِ على تمارين التنفس؟ هل تناولتِ دوائك بانتظام؟ هل عاودتك الهواجس؟ هل قلّت؟ هل زادت؟

أحاول الرد بما أستطيع، أتحدث في أمور أخرى غير مهمة، يهاودني الطبيب ويستمع إليّ، يحاول العودة إلى الموضوع الأساسي، لكنني متعبة.

 

مشهد 4:

أمرر يدي على حبال الغسيل التي شدتها أمي بطول سور الشرفة، حبال كثيرة متجاورة مشدودة، أتساءل عن قوة تحمل هذه الحبال إن هويت عليها، هل تأخذني وتهبط، أم تمنعني من السقوط؟

حبال الغسيل هي العائق الوحيد أمام فكرة تراودني كل ليلة، فماذا لو اختفت بعد حين؟

 

مشهد 5:

أسير على الرصيف وحدي بخطوات مسرعة، أرتجف خوفًا، أتلفت حولي، أدقق النظر في الأرض أسفل قدميّ، وفي أكوام الركام المتناثرة، صوت سيارة مسرعة يجعلني أنتفض فزعًا، ترتعش يداي، يطاردني مشهد مستمر لرصيف آخر أُلقِيَت فوقه طفلة بكنزة زهرية على وجهها، أحاول وضع غمامة أمام المشهد كما نصحني الطبيب، أظلم شاشة عقلي، أسير بسرعة أكثر، يعود المشهد ليحتل نظري، أغمض عينيّ، أجبر عقلي على تخيل سيناريو آخر، تنهض فيه الطفلة واقفة، تمسك بيد أمها وتسيران بعيدًا بعيدًا. تسقط دموعي في الشارع، فينظر لي المارون بدهشة، لكني لا أقوى حتى على مسحها.

 

مشهد 6:

شهيق.. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة.

زفير.. واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة.

أكررها 7 مرات.

 

مشهد 7:

تمسك طفلتي وجهي بكفيّ يديها، أقبلها على أنفها فتبتسم، “أحبك” تهمس لي فيستعيد قلبي بعضًا من النور، أفتح ملفًا جديدًا وأكتب، أكتب حتى أشعر بأن عقلي صار خاويًا، أستعيد بعضًا من قدرتي على التنفس، أسير، وأكتب، أتناول الدواء، أواظب على تمارين التنفس، أزداد قدرة على الحديث مع الطبيب، أسجل كل تفاصيل يومي وأعطيها علامة من 10 بقدر ما أسعدتني، أتجاهل حبال الغسيل، والكنزة الزهرية في خزانة طفلتي، أتوقف عن التظاهر بأنني بخير، وأسمح لنفسي بالتعبير عنها، يقل وزني، يشحب وجهي، لا أهتم، أترك جسدي ينتفض متخلصًا مما فيه، يخرج السواد من قلبي أخيرًا، لكنه يترك آثاره عليّ.

 

مشهد 8:

يقول الطبيب تخيلي أنك تنظفين منزلك بكل طاقتك، المنزل صار رائعًا، لكن التراب لا يزال عالقًا على وجهك وملابسك، لا تهتمي به، حمام سريع يزيل كل شيء.

أتعلم التعايش مع هجمات الظلام، ألجأ لخطتي الدفاعية بالتمسك بالحب، أداوم على مقابلة الأصدقاء، على الكتابة، على المشي، على سماع الموسيقى، على مصارحة من أحب بأنني أحبه، على التعاطف مع الآخرين، على تقبل الذنوب الصغيرة، أداوم على الغفران.

 

مشهد 9:

أجلس على الرصيف بجوار سيدة عجوز ترتدي السواد، أناولها زجاجة مياه وبعض الفاكهة، فتسألني “معاكي رغيف”؟ لا أملك خبزًا في حقيبتي، فأجيبها بالنفي وقلبي يعتصر، لكنها تبتسم لي وتقول “لا تُحمِّلي نفسك ما لا تطيقين”. تربت على كتفي، تضيف: “كله مقسوم”، فيعديني اليقين، أعود إلى البيت واثقة في جدوى الانتظار.

 

مشهد 10:

تطرق ابنتي على باب الغرفة، أفتح لها لأجدها ممسكة بجيتارها الصغير تغني لي أغنية لا أفهمها، لكنها تقهقه ضاحكة فأضحك أنا الأخرى، تدمع عيناي من الضحك بينما تُكمل هي أغنيتها، الغريب أنني أفهم ما تعنيه حتى ولو كانت بلغة غريبة غير مفهومة، كانت طفلتي واقفة أمامي، تخبرني أنها بجواري هنا، والآن.

 

مشهد 11:

يسألني الطبيب: هل تندمين على شيء؟ أفكر للحظات، ثم أبتسم وأنا أهز رأسي نافية. يسألني مرة أخرى: هل هناك أيّ شيء تودين تغييره في حياتك؟ أجيب من جديد بلا.

يقول جميعنا نرتكب أخطاء، أرد عليه: نعم.. لكننا لا ننتهي أبدًا من صُنع أنفسنا*.

 

الاكتئاب هو جزء من كوني إنسانة، كل هذه الندبات في قلبي، والظلام الذي يهاجمني فجأة، كل مرة أستسلم فيها لسطوته وأبتعد عن نفسي، كل مرة أسقط فيها إلى القاع، هو في الواقع ما يصنعني، ينحت كياني، يحذف كل ما هو غير ضروري، ويدفعني إلى السطح من جديد.

 

*الجملة لخوان خوسيه مياس.

المقالة السابقةميه ميه كانت هتفرق في الوداع! اللحظة الأخيرة
المقالة القادمةعلمتني الغربة
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا