مسك الليل

1404

 

بقلم/ أماني عياد

أجلس في شرفتي هذا المساء مكتفية بضوء خافت يأتيني من الشارع. يتسلل برفق من بين أغصان شجرة مسك الليل التي تبدو علاقتي بها حميمية لدرجة الغيرة. فمنذ طفولتي وهذه الشجرة تظلل جانب شرفتي الأيمن كله. بل كثيرًا ما تنمو غصونها اليافعة حتى تصل لباب الشرفة نفسه. أظنها لا ترتاح لستائر غرفتي الخفيفة الشفافة، فتعمل على مداراتي من الأعين بطريقتها. لكنني أضطر ساعتها لطلب مساعدة عم حسين الجنايني لتشذيبها. كنت أظن أنني أسمع صوت نحيبها وهي تتقطع بمنجل البستاني العجوز، ولا أتحمل متابعة توسلاتها، فأسرع بالدخول حتى ينتهي، وأواسي نفسي بأن ما قطع هو غض الغصون لا عجائزها من عشرة العمر ورباط السنين. وأظل فيما يشبه الحداد لعدة أيام حتى تنسيني بعض الخطوب بعضًا.

 

أفكر في أحوال الدنيا وتغلبني ابتسامة عجب مخلوطة بالكثير من الرضا. أتممت عامي الخمسين أواخر هذا الصيف. آنسة في الخمسين وأعيش وحدي في بيت أهلي. منزل من ثلاثة طوابق تحيطه حديقة جميلة. قريب الشبه بالبيوت المعمورة لكنه في ستانلي. توفي والداي منذ زمن. ولي أخت متزوجة وتعيش في القاهرة وأراها كل عدة أشهر. لنا محل قريب للتحف والمفروشات كنت أديره حتى عدة سنوات مضت، عندما أصبت بفيروس نادر في الأمعاء، وقضيت عامًا كاملاً في ملاحقة سراب العلاج في كل مكان حتى اختفى المرض فجأة كما ظهر. لكنه تركني في حالة نفسية يرثى لها.

 

أصابني نحول شديد وزهد في الطعام وعدم قدرة على العمل، فأغلقت المحل ولزمت البيت فيما يبدو كالاكتئاب.. أو هو كذلك. شهور طويلة وكأنني أطالع العالم بنظارة رمادية باهتة، فلا أرى سوى الألم والحزن. ولم تفلح علاقاتي الاجتماعية المحدودة في انتشالي من تلك الهوة. فكانت عقارب الساعة مخالب تجرني أكثر لعمق الهوة، وكأنني بلا أي مقاومة.. تمامًا كورقة من أوراق مسك الليل التي يقطعها عم حسين. تعاطفت أيامها مع الوريقات الضعيفة وغصونها الشابة وتوقفت عن طلب تشذيبها. فنمت واستطالت حتى غطت فراغ الشرفة بالكامل. بل وتدلت على سورها وأرضيتها بما لم يعد يسمح لي بالجلوس أو حتى الوقوف. فأغلقتها وأسدلت ستائري واستسلمت للدوامة وظننت أنني لن أنجو أبدًا.

 

ثم صحوت في أحد الأيام الرمادية المتشابهة على ما يشبه النحيب المتقطع يصدر من شقة جاري في الدور الأرضي. الأستاذ حامد.. مدرس لغة إنجليزية متقاعد من سنين، وقريب بعيد يسكن في الدور الأرضي منذ سنوات طويلة هو وزوجته بلا أولاد. رجل في عمر والدي رحمه الله. شديد الجدية والتحفظ ولم أناده بلقب عمو أبدًا طوال تلك السنوات. علاقتنا رسمية ومقتضبة جدًا، حتى أنني أنسى معظم الوقت أن بالبيت سكانًا سواي.

 

أنتفض من سريري بانقباض شديد وأسرع للمطبخ حيث يأتي صوت البكاء الصعب. وأكتشف أن الرجل يستنجد في وهن بمن يساعده في حمل زوجته العجوز التي سقطت بلا مقدمات على أرض المطبخ. أقفز درجات السلم في هستيرية، لأجد بابه مفتوحًا، وأجده مكومًا فوق العجوز الملقاة على وجهها، وعاجزًا تمامًا عن رفعها أو مساعدتها بأي طريقة. أحمله من تحت إبطيه بصعوبة وأجلسه على مقعد قريب وأهرول لطلب الحارس وغيره من شباب الشارع لمساعدتي. فننقل السيدة للمستشفى ونكتشف وفاتها هناك.

ظل الرجل واجمًا ومصدومًا لعدة أسابيع تالية. وأصابه التواء حاد في ركبته نتيجة محاولات رفع زوجته جعله عاجزًا عن المشي لأسابيع. ووجدتني مضطرة لتقديم بعض المساعدة له، فلا أحد يقيم معه الآن. ربما بعض الطعام، اتصالات بالصيدلية، أخذ مفتاح الشقة، الاتفاق مع الحارس لمساعدته حتى الحمام.. وهكذا. بعدها تحسنت حركته وبدأ يخرج للشارع أو لحديقة البيت معظم ساعات اليوم. كان ملفتًا تهرُّبه من البقاء بالشقة. أعرف هذا الرعب جيدًا. عايشته كثيرًا بعد وفاة أمي. إنه رعب الذكريات. نبقى حيث كان الأحبة الراحلون، فتصحو الذكرى من مرقدها كمارد صغير، وسرعان ما تنمو وتكبر وتحيطنا حتى تسحب كل هواء المكان، حتى لتوقن أنك تختنق بحق، ولا تجد إلا المغادرة بديلاً عن هذا العذاب.

أشفقت عليه من الجلوس الطويل في شمس يوليو القائظة، وقررت تظليل جزء من الحديقة ووضع طاولة وكراسي ليجلس براحته. ولاحظت مع الوقت أنه قارئ نَهِم للأدب. لفتتني يومًا قراءته لإحدى مجموعات ويليام فوكنر القصصية، وكنت قد قرأتها ولي عليها بعض الملاحظات، فتبادلنا حديثًا سريعًا خالفني فيه الرأي وأبدى أسبابًا وجيهة. دقائق أعادت لي شغفًا قديمًا توارى خلف هموم الدنيا وإحباطاتها. وجدتني أعود للقصة لأراجع ما قاله فأجده أكثر عمقًا فأبتسم.

 

بعدها تعودت النزول للجلوس معه في الصباح. أحاديثنا الصباحية جعلت لي سببًا للاستيقاظ بعدما كنت ألتصق بالسرير حتى قبيل صلاة العصر. غريبة هي أحوالنا. كم من مرة حاولت الخروج من عزلتي وفشلت! الآن أجدني بلا سبب مفهوم متعلقة بأنس عجوز مريض كنت أمتعض لرؤيته منذ أشهر قليلة!

 

منذ أسبوعين وجدته يرفع رأسه ويتمعن في شجرتي ويتمتم بأسى. قال إن زوجته كانت تستأنس بعبير أزهارها المسائي كثيرًا. ولفت نظري لكونها لم تزهر منذ بدايات الصيف رغم أنه أوانها. أخبرته بأنني قصدت تركها بلا تهذيب رفقًا بالأغصان والأوراق، وأن عم حسين يسقيها مع باقي الحديقة. ابتسم بتعجب وتساءل: وهل كان الترك يا ابنتي رفقًا أبدًا؟ إن الأخذ منها كل حين يمنحها سببًا للحياة، فتنمو مجددًا وتتألق وتزهر، أما الترك فها هي نتيجته.

 

صعدت يومها وفتحت شرفتي للمرة الأولى منذ شهور طويلة. هالني امتلاؤها بالأوراق الذابلة والغصون المريضة. ولم أدر إلا وأنا أزيل كل هذا البؤس وأنظفه وأستعين بعم حسين لتهذيبها مجددًا. وها هي شجرتي للعجب تزهر في أقل من أسبوعين، تزهر كروحي يا أستاذ حامد، تزهر بأخذ بسيط مني لك.. ولي منك. تزهر وتمنحني عبيرًا ليليًا رخوًا حانيًا يؤنس ظلام أمسياتي كلها.

آنسة في الخمسين وأعيش وحدي في بيت أهلي

 

المقالة السابقةالمرأة في عمر الثلاثين بين المميزات والعيوب
المقالة القادمةعزيزي الرجل.. أحبني بلا عقد
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا