“مدام ماجدة” الدبة التي قتلت “عزيز”

923

قَطع الحبل السُرِّي بين الأم وطفلها لحظة الولادة هو الفَصل الأول بينهما، والذي على أثره يصبح كل منهما شخصًا مُستقلاً، لا تابعًا أو مُنسحقًا، يليه بعد مدة فطام الطفل عن أمه، كما لو أن الله يمنح كل منهما وسائل تدريجية لتوسيع دوائره، وعلى ذلك يظل الفطام الأصعب والأهم هو فطام الأم عن طفلها.

 

فبالرغم من أن كل الأمهات يُرِدن الأفضل لأبنائهن، عازمات على تقديم ما بوسعهن كي تصبح حياتهم أفضل، فإن البعض يلتبس عليهن الأمر، فيجرفهنَّ خوفهن على أولادهن نحو اختيار كل وأي شيء لهم، ليَقيْنَهم شَر التجربة، غير مُدركات أنهنّ بتلك الطريقة يسحبن من تحت أقدام أولادهن البساط الذي يَضمَن لهم فرصتهم الوحيدة للتَعلُّم.

 

ولأن الأمهات تَفعَلن ذلك بوزاع من حب مُغلَّف بالقلق، ليس بغرَض تَمَلُّك الأبناء، تصبح فكرة إقناعهن بترك المجال لأولادهن كي يعيشون الحياة كما يتمنون لا كما يَصِح، صعبة وغير منطقية، كما لو كان يُطلَب منهنّ نزع أبنائهن عن صدورهن عُنوةً.. ذلك بالضبط حال العلاقة بين “مدام ماجدة” وابنها “عزيز” بمسلسل “ليالي أوجيني“.

 

هو لما الناس كلها مش عارفة.. أومال مين اللي بيعمل اللي هو عايزه؟!”

“عزيز” رجل ضخم الجثة، تراه من بَعيد فتظَنه شخصًا تخشاه الحياة، لكن بمجرد رؤية عينيه الزائغتين، اللتين لم يتعلَّم كيف يرفعهما بوجه من أمامه، والاستماع لصوته الهادئ وحديثه البطيء، تكتشف فورًا أنه ما زال طفلاً، وأن روحه سجينة حياة لا تُشبهه، أو على الأقل ليست من اختياره. الأمر الذي يُفسِّر أن تحمل عيناه دومًا كل هذا الكَم من الضعف، والانكسار، والتوهة، والحزن.. والكثير جدًا من الحنان، حتي يُخَيَّل لك كلما نظرت إليه أنه انتهى لتوِّه من نوبة بكاء أو على وشك الدخول بواحدة.

 

المؤسف أن تكون المُتسببة بكل ذلك أمه.. “مدام ماجدة”، السيدة العجوز، سليطة اللسان، التي اكتفَت بابنها بديلاً عن العالم، مُتخذةَ إياه ونيسًا بوحدتها، ورغم أنها لم تتمنَّ من الدنيا شيئًا سوى أن تراه سعيدًا، فإنها فعلت ذلك من منظورها الضيِّق، فكان أن سلبته حياته، وحَوَّلَته لعروس ماريونيت لا يملُك قراره، ولا يجرؤ أبدًا على قَول لا.

 

– هعملك كاكاو سُخن.. لسه بتحبه؟

– لسه بحبه.

الكَسرة الكُبرى الأولى بحياة “عزيز” كانت رفض والدته ارتباطه بالفتاة التي تُحبه والتي عاش يحلم أن تكون له، لم تهتم أمه بكل ذلك، بل انصَبَّ تفكيرها على الفارق بين “عزيز” و”صوفيا”، الفتاة الإيطالية التي تختلف عن ابنها بالكثير من الأشياء أهمها الأحلام، فهي فراشة حُرة، تنوي التحليق والتَحَقُق، و”ماجدة” تُريد لابنها أن يظل قابعًا بجوارها لا يُغادرها.

 

ولأن “عزيز” لم يتعلَّم الوقوف بوجه والدته أو التَمرُّد عليها، تارةً لضعفه، وأخرى لحرصه على إرضائها، استسلم لقرارها، واختار العزوبية سبيلاً، ثم جلس يُشاهد حب حياته تتزوج وتغادر. وحتى حين عادت “صوفيا” مرة أخرى مُتاحة، بقي غير قادر على التصريح ولو بينه وبين نفسه بتلك المشاعر التي لم تَخمد بقلبه يومًا.

 

“عايزة أعملك كل اللي نفسك فيه.. عايزين نفرح يا عزيز”.

كانت “ماجدة” تُدرك أنها أغلقت الكثير من أبواب الحياة بوجه ابنها، لذلك سَعَت إلى إسعاده، ولكن بطريقتها المعهودة والمشروطة، فهي وإن كانت تُريد أن تراه سعيدًا، فإنها ترفض أن تُبنَى تلك السعادة ضد إرادتها. ومن جديد يُطاوعها “عزيز” على غَير رغبة قلبه، فيرتبط بامرأة لا يحبها، ثم للمرة الثانية تبتعد عنه المرأة التي اختارها لأنها الأقوى والأكثر حكمة، مُنتصرةً لكرامتها ولو على حساب قلبها.

 

“خايف معرفش أعيش من غير الخوف اللي اتعودت عليه”.

تموت الأم.. فتُصيب “عزيز” كَسرةٌ ثانية، رُبما الأقسى، ترحل “ماجدة” دون أن تمنح ابنها ترياقًا يشفيه من هَول الفقد، فَقد ما عاش عمره كله يتمناه، وفَقدها هي نفسها، فحتى هي لم تحسب حساب كونها لن تحيا لأجله للأبد، وأنه لن يلبث ذات يوم أن يختبر الطريق وحده، فإذا به لا يعرف كيف يتهجَّى أبجديات الحياة.

 

فجأة، يجد “عزيز” نفسه حُرًا، يستطيع فعل ما يحلو له بأي وقت ودون استئذان، فها هي حبيبة القلب الأولى لا يحول بينه وبينها شيء أخيرًا، يُمكنه الآن أن يخوض تجربة السفر لأي مكان، أو السهر خارج المنزل حتى الصباح، والكثير مما كان مُحرَّمًا عليه لا لشيء سوى لأن أمه لا ترتضيه. وعلى ذلك يظل الخوف يُلَجِّمه، خوفه من اكتشاف أنه لا يعرف كيف يفعل تلك الأشياء، أو رُبما لا يصلُح لفعلها، فمَن كانت تحمل بوصلة حياته رحلت قبل أن تشرح له الاتجاهات، تاركةً إياه بدائرة مُغلقة عليه وحده.

 

“أنا كنت فاكر إن أنا هزهق لما أعمل حاجات لوحدي، بس طلع متعة في حد ذاتها”.

في النهاية ينتصر حُب الحياة، فإذا بـ”عزيز” يطرق كل الأبواب بوقتٍ واحد، يخوض التجارب على عَجَل عَساه يُعَوِّض ما فاته عُمراً بأكمله، يفعل ذلك بمزيجٍ من الغشومية والبراءة، ورغم توقعه أنه لن يستطيع الاستمتاع وحيدًا، فإنه -كما يليق بطفل- يسعَد بكونه قادرًا على تجاوز الحدود دون أن يلومه أحد.

 

“معرفش أنا طيب عشان أنا طيب، ولا عشان معرفش أكون حاجة تاني”.

ثم سرعان ما يكتشف أن بعض التجارب لا تُدرَك مُتأخرًا، فالشغف وَليد مرحلته والفرحة كانت ستتضاعف إذا ما حدثت الأشياء وقت تمنيها، أما الاكتشاف الأهم والأكثر إيلامًا فهو أن المشاعر لا تظل كما كانت، لمُجَرّد أنها لم تنتهِ من داخله.

فالجميع مضوا بحياتهم للأمام، تاركين أشباح الماضي خلفهم، ليست مسؤوليتهم أنه لم يفعل مثلهم، الأمر الذي يُزيده تَخبُطًا وانكسارًا، فيُقرر أن يسلُك طُرقًا بالحياة لا تُشبهه، ليس انتقامًا ممن خذلوه بقَدر ما هو انتقامًا من نفسه، لكن حتى تلك الاختيارات الخاطئة يفعلها بشيء من العزوبة والرقة.

 

“اعمل اللي إنت عاوز تعمله، ده حقك، بس متبهدلش نفسك”.

ولأن “عزيز” بينه وبين الله عمار، يُرسل له الله من وقتٍ لآخر رسالة هنا وطبطبة هناك، يلطُف به، فيعوضه بعضًا من غياب أمه التي رحلت، ويُخفف عنه وجَع حقيقة أن حبيبته التي -وإن ظلت- تحمل له بقلبها دفئًا واهتمامًا، فإن تلك المشاعر ما عاد يُمكن ترجمتها إلى حُب بين عشيقين. فهل يتمالك “عزيز” شجاعته ويقطع الحبل الذي يربطه بكل ما مضى، مُبصرًا الصورة الأكبر، فيعبر الباب المفتوح  أمامه على الدنيا؟ أم يظل عالقًا للأبد؟

 

 

 

المقالة السابقة“سر السكر”.. روح الرواية في كتابة مريم حسين
المقالة القادمةعندما تضاعف قلبي ولم ينقسم
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا