ما أعرفه عن عجزي.. وقدرة الله

429

 

في الثانوية العامة تعرفت على الله، كل الضغوط التي كانت تطاردني بلا رحمة من الأهل والمجتمع والتوقعات والمناهج والتنسيق والاختيارات الحتمية والمصيرية وعنق الزجاجة المزعوم، كلها قادتني إلى حقيقة واحدة، أنا محدودة القدرة، أستطيع أن أبذل بعضًا من الجهد، وهو مثلث صغير جدًا من الدائرة البيانية، أما باقي الدائرة فهي قلبي، أملؤه بالدعوات والرجاء والمناجاة والقرب وأرفعه إلى الله، فيطير خفيفًا ويستقر هناك في السماء، ينتظر ويدمع، ويثق أنه فائز لا محالة.

 

عندما سافرت من مدينتي الصغيرة إلى الجامعة في المدينة القاهرة، كان قلبي ضبابيًا لا يعرف إلى أي بر سترميه الأمواج، كنت أرفع قلبي إلى الله عند بوابات الجامعة العريقة، وأخبره أن ينصفني فيه بصحبة طيبة، وألا يذرني فردًا.. ولم يخذلني قط.

 

في كل المواقف الصعبة والمفاجئة، وعند كل منحنى مصيري ومُحيِّر، مع كل مشاجرة كبيرة، أو صخرة تقع على ظهري، كان هناك قدرات شخصية استثنائية تنبت فيّ من العدم. أفكار مجنونة أو ملهمة، أو حلول مبدعة ترضي فجأة جميع الأطراف، قدرة على الصبر والمواصلة، ثبات على المبدأ ومثابرة وحماس، قدرة على الإقناع أو توفيق الأوضاع، كلها قدرات تميَّزَتْ في وقتها بأني لم أكن أعرفها عن نفسي، لم أتوقعها في هكذا مواقف، لم يكن من الممكن أن أتنبأ بدوري فيها إذا كنت أشاهد مسرحية الأحداث هذه من خارجها، وأنا أعرف من أنا.

 

نسير في شوارع القاهرة وفي طرقها السريعة، حيث لا منطق في القيادة ولا ضوابط مرورية يستجيب لها أيًّا كان، فأعجب كيف ننجو من الموت المحيط بكل هذه السرعة والجنون والتهور والعشوائية! بالتأكيد ليس ذكاؤنا الخارق ولا قدراتنا الجبارة، هناك ستر ما، قدرة أكبر وأعلى تحيط بنا وتحمينا من الموت المحتمل في كل لحظة وترسم أقدارًا مغايرة لمعادلات المنطق البحتة.

 

عندما حملت بطفلتي اكتملت في ذهني صورة، أنا فيها مجرد أداة رعاية هامشية جدًا، جنيني يأكل وينمو ويتشكل داخلي، ولا فضل لي في ذلك، جسمه وجسمي ينبضان ويمارسان النوم واليقظة والنمو وتبادل العمليات الحيوية في استجابة سلسة لسُنَّة الكون المعجزة التي بالكاد أعرف عنها بعض الاجتهادات العلمية الحديثة، هناك من يدير الحياة منذ آدم وقبله وبعده ويعرف كل شيء، ويسيطر على كل التفاصيل التي لا يدركها عقلنا المحدود ولا قدراتنا البسيطة في محيط قدرته.

 

فقدت وعيي وأنا ألد الصغيرة، بعد محاولات مضنية لساعات طويلة أن تأتي للعالم دون الحاجة لجراحة، في الطريق بين غرفة الولادة وغرفة العمليات، والذي استغرق لحظات، شعرت أن روحي تهيم في بياض محيط بلا نهاية، شعرت بمعية الله كما لم أشعرها من قبل، في منطقة بعيدة من الوعي كنت أبحث عن الأدعية لأتلوها، ولكن في منطقة أخرى كان هناك ابتسامة ثقة وونس واسعة، كنت أبحث بها عن أبي لأتأكد هل أنا حية أم مت وحان وقت لقائه! قلت في خلفية الإغماءة إن الذين يخافون الموت ويرهبون لقاء الله سُذَّج ومغفلون، هذا البياض الغامر طيب، يخلو من الصخب والعراك، والله يحيط به من كل جانب.

 

في الأشهر الأولى بعد الولادة، كانت صغيرتي كثيرة البكاء، كنت أضعها على صدري أهزَّها وأبكي، أنظر إلى السماء، وأخبر الله أني لا أفهم شيئًا بالمرة، أنا لا أعرف لماذا تبكي هذه الصغيرة، وكيف أُسكِت بكاءها الذي يدفعني للانهيار، أنا أحبها ولكني لا أعرف ما الذي يجب أن أفعله الآن كي يمر هذا الوقت بهدوء وسلام.

 

كنت ولا زلت -بعد أكثر من عام ونصف- أنظر إلى السماء كل ليلة قبل النوم وأقول له: “يا رب.. أنا عاجزة تمامًا، جاهلة تمامًا، إلا ما أعطيتني من قوة، إلا ما رزقتني من علم أو فكرة”، وفي كل مرة أعتقد فيها أني وصلت لخط اليأس مع الصغيرة، وأوشك على الانهيار، وأعتقد أني سأبقى على وضعي المتقوقع الباكي على سريري للأبد، ينفتح من العدم بابًا للفرج، أو طاقة من النور، أو تتنزل عليّ دفعة جديدة من الصبر والمعاودة. أبات وأنا أقول: “أنا مجرد أم فاشلة”، فأستيقظ وعشرات الأفكار تتصارع في رأسي وأنا أقول: “ما زال لديَّ متسع للمحاولة من جديد”.

 

تمرض الصغيرة، فألوم نفسي وأقول قصَّرت في تغذيتها والعناية بها، أقضي الوقت بين الأدوية والكمادات مخلوعة القلب، يطول الأمر حتى أشعر بعبثية كل ما أفعله، ثم تُشفَى فجأة، وتنير ضحكتها وجهها الصغير وحياتي الممتلئة بها، لتصلني الرسالة من جديد، أنا هنا مجرد سبب، مجرد أداة ووسيلة، تحتضنني الرحمة، فلا أعرف هل كان الشفاء من الأدوية أم من الدعوات الصاعدة للسماء!

 

أنا لديَّ يا الله قدر من الطاقة، وبعض من النور يسقي روحي بين الحين والآخر، وقلبي تزوره الرقة إذا ذُكِر اسمك وبعض من فيض رحمتك، ولكني أتوه، ساقية الحياة تجعلني أحيانًا مجرد عقدة في بكرة خيط لا أول لها ولا آخر، فأشعر فجأة أن كل الأسئلة بلا إجابات، وأني فقدت بوصلتي وهدف كل هذا اللهاث.

 

يا الله.. أنا أثق في نفسي لأني أثق أنك هنا، وستبقى معي مهما حدث، أنا أتصبر لأني أعرف أنك في الجوار تعرف ما لا أعرف، أنا أحاول مرة جديدة في كل صباح، لأني أعرف أنك لن تخذلني أبدًا في منتصف الطريق، فارزقني كثيرًا من ولا تحرمني -مهما قسا قلبي- قدرتك في كل مواطن عجزي.

 

المقالة السابقةالناس أكلات
المقالة القادمةادِّي بوسة لعمو
كاتبة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا