لنصاب بالوطن البسيط وبرائحة الياسمين

1907

كلما أشم رائحة الياسمين كلما نمت زهوره على شاكلة جسر كبير ينقلني عبره إلى بيتنا في البحر الأحمر بيت البحر. الموطن الأول للياسمين في حياتي، الشجرة التي تتربع في “فرندة” كبيرة تطل على البحر. حبات الياسمين التي تزهر في الربيع وتتساقط كحبات التلج في نهاية موسمه، صورة جدتي وهي تصنع لي تاج الياسيمن.

 

 

صاحبني الياسمين إلى كل بيت انتقلت إليه، حتى ولو كنت عابرة سبيل أنتقل من بيت البحر إلى بيتنا في السويس، حيث أبدأ فصول الغربة المبكرة. خمس حبات ياسمين هي عدد سنوات عمري. أبي يحب الزرع في البيت الجديد، يزرع الياسمين والجوافة وأي شيء يصلح للزراعة. في البيت الجديد تمارس أمي طقوسها المميزة، تحاول أن تستحضر جدتي في كل تفاصيله وكأنها تحضّر روحها. أسأل عنها فتخبرني أنها تركت بيت البحر هي الأخرى وانتقلت إلى بيت جديد شبابيكه على البحري ستائره تتدلى كنجمات صغيرة تلمع كلما دعونا لها بالرحمة.

 

كلما عدت في زيارة خاطفة لبيتنا في السويس أرى جدتي تجمع حبات الياسمين وتنفث دخان سيجارتها التي ما كانت تنطفئ لولا الموت، تبتسم لي وتربت على كتفي، تحشو فمي ويدي بحلوى الفروالة التي أحبها دون أن تلومني على وجع أسناني أو شقاوتي المُبالغ فيها.

 

آخذ نفسًا عميقًا أسحب كل حبات الياسمين لصدري تحسبًا لغطس عميق في معارك الحياة، وأبدأ غُربتي الجديدة وحدي، هذه المرة في بيت الطلبة في حدائق القبة أتذكره فيرتعش قلبي وتدمع عيني، أتذكر جدران غرفتي التي نقشت عليها حروف اسمي مبعثرة ومجمعة، تواريخ مهمة، كلمات من خطابي العاطفي الأول، صوت مشرفة الدار الذي يقطع الصمت عبر طوابق البيت الخمسة. مُحذّرة “راااجل راااجل يا بنات”، صوت ضحكاتنا المكتومة ونحن نسمع أسامة منير و”سهوكة” البنات تسليتنا الوحيدة في المساء. أتذكر ملابسنا وأوجاعنا وأفراحنا التي كنا نتبادلها، أتذكر كل هذا فأفرك يدي بشدة فتفوح منها رائحة الياسمين.

 

أنتقل من بيت الطلبة إلى بيت غمرة، بوابتي السحرية وشفرة دخولي إلى العالم الذي طالما حلمت به، بيت “طنط هنا”، أمي الروحية وملهمتي وخط دفاعي الأول ضد اليأس، أحفظ تفاصيل البيت عن ظهر حب، بوابة البيت العتيقة مزينة بتماثيل تحمل أعمدة منحوتة بدقة، صالة واسعة بها شباك كبير بحجم الحائط، شرخ بسيط أسفله وكرسي هزاز طالما دفست جسدي النحيل فيه أقرأ بريد الجمعة وأسمع أبلة فضيلة عبر الراديو (أكثر شيء مميز هنا) طرقة طويلة أقطعها محمّلة بأحلامي الكبيرة، أدخل غرفتي أتمدد فوق السرير، أتأمل سقف الغرفة العالي، سقف الأمنيات كما تسميه أميرة بنت طنط، فأسفله كل ليلة نحلم أنا وهي بالسفر والحب والحلوى، أنا مدينة لهذا البيت بالكثير من الحب والدفء.

 

بيتي في دبي آخر محطاتي في الترحال –أو هكذا أتمنى– أسسته بالقليل من الأثاث، كنبة على الطراز الحديث أغوص فيها كلما شعرت بالغربة، وجرامفون ابتعته من الحسين يصدح بصوت محمد فوزي، والكثير من صور الياسمين على الحائط عوضًا عن زراعته بسبب الطقس هنا. أصنع هنا ذكرياتي الجديدة مع بناتي وزوجي، يملؤني يقين بأن البيوت تشبه الأرواح إن لم تكن أرواحًا فعلاً، من يتآلف فيها مع روحك يسكنك للأبد، وأنا مسكونة بكل هذه البيوت أحملها معي على جواز سفر قلبي أينما ذهبت.

المقالة السابقةخواطر متناثرة عن التبرعات
المقالة القادمةعن غُرفة 156 وأشياء أخرى
صحفية وكاتبة مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا