لم أعد الغريبة التي لا تُشبه أحدًا

745

لم أكن يومًا الفتاة التي تُشبه الجميع أو التي تنتمي لقطيع اسمه “الآخرون”، أتذكر “أبلة كوثر” مُدرسة العربي بالصف الخامس الابتدائي تأخذني من يدي لفصول الصف الثاني والثالث الإعدادي لأقوم بحَلّ ما تعذَّر على الكبار إجابته. تُوقفني أمامهم على السبورة وتقول لي “ياسمين.. اعربي لهم ما تحته خط ثم استخرجي المطلوب من القطعة التي أمامك”، فأمنحها كل الحلول الصحيحة لتفخر بي.

 

أتذكر “عمو أسامة” -رحمه الله- كيف كان في كل تجمع عائلي يمدح عقلي ونضجي السابق سني، وكيف كان يرى أنني مُختلفة عن الباقين وأنني سأظل دائمًا -في نظره- فتاة استثنائية ستصبح ذات شأن يومًا ما.

 

للأسباب السابقة ولأسباب أخرى كثيرة تتعلق بظروف حياتية شخصية شيَّد الآخرون حولي -باقتناعي ومُساعدتي- حائطًا سميته “وحدي أنا الغريبة لا أُشبه أحدًا”*. ولم يكن ذلك معناه أنني أرى نفسى الأفضل والأعلم، كل ما في الأمر أنني كُنت على عِلم مُسبق بأنني أعيش داخل دائرة نقاط تقاطعها مع من حولها قليلة جدًا، ما يمنحني مساحة شاسعة للوِحدة ومزيد من الاختلاف. رُبما لذلك ظل مُعظم الوقت أصدقائي أكبر مني سنًا.

 

هكذا كانت حياتي، حيث لا أنتمي لأشخاص بعينهم أو لمكان ما، انتمائي الكامل لتلك المرأة التي تتحدث داخل رأسي القابعة بين صفحات الكتب ودفاتر الكتابة. إلى أن سمعت بالصدفة في 2003 برنامجًا على الراديو الأوروبي تُقدمه المرأة التي غيّرت حياتي بعد ذلك “سحر الموجي”. كانت آخر دقيقتين بالحلقة ولم أستطع أن أعرف كيف أصل إليه مرة أخرى، فظللت أسبوعًا كاملًا أفتح الراديو في نفس الموعد يوميًا حتى سمعته مرة أخرى.

 

لُحسن الحظ قرر المستمعون -بعدها بشهور قليلة، بإشراف دكتورة سحر وحضورها- تنظيم لقاءات منتظمة لأصدقاء البرنامج تعرفت من خلالها على معظم الأشخاص المهمة التي دخلت حياتي، والذين ما زال بعضهم حتى الآن هم الأقرب إلى قلبي وعقلي. كانت تلك هي أول مرة أكتشف معنى الانتماء لمجموعة ما، لتيار موجود بالفعل على أرض الواقع.. إذن يوجد من يُشبهونني فعلاً، ولأنني محظوظة استطعت العثور عليهم، حتى ولو تأخر ذلك قليلاً.

 

هكذا وجدت دوائر كثيرة تتقاطع مع دائرتي الخاصة، تجمعنا العديد من النقاط المشتركة، ما كان وقودًا كافيًا لأثق باختياراتي وأعرف ما أُريد أكثر من ذي قبل، بل وأتخد قرارات كانت لتصبح أكثر صعوبة لو لم يكن مثل هؤلاء الأشخاص في حياتي، ما جعل تلك المرحلة واحدة من أفضل المراحل التي مررت بها والتي قد تُفسِّر للكثيرين اختياراتي أو أفكاري التي أعتنقها.

 

ثم ظهرت المنتديات، ثم المدونات، وانفتح العالم على مصراعيه على أشخاص أفهمهم ويُشبهونني، وفجأة أصبحت الحياة أكثر دفئًا وحميمية، وأصبحت أنا أكثر وعيًا وإصرارًا على الوصول. لذا سأظل مدينة للأبد لتلك اللحظة التي غيرَّت حياتي وجعلتني أعرف طعم وأهمية الانتماء.

 

الحكاية ليست كما يُسوِّق لها البعض، بأن اختيارك لمجموعة من البشر عن دونهم -تتماهى فيهم ويصبحون حُلفاءك في الحياة- معناه أنك قد فقدت نفسك ولم يعد لك رأي أو كيان، كل ما في الأمر أن هكذا تكون الحياة أسهل وأفضل. حتى أنك -وقتها- سيصبح لديك قدرة أكبر على تَقَبُّل الاختلاف وتَفَهُّم الآخر لأنك وجدت من يفعل هذا معك.

 

الحياة مع الذين يُشبهوننا فقط منقوصة، ومع المختلفين فقط عنا لن تستمر طويلًا مهما بلغت درجة حُبنا لهم، لذا الموازنة مطلوبة وحتمية. فمع وجود أشخاص في حياتنا يُمثلِّون باقي علبة الألوان التي ننتمي إليها كلنا فى النهاية، لا عيب من أن يكون لكلٍ منا مجموعات ننتمى إليها، واحدة فنيًا، وأخرى اجتماعيًا، وأخرى سياسيًا… إلخ، لنُشبع حاجة كل الأرواح التي تسكننا في التواصل.

 

وفي خضم تلك الرحلة علينا ألا ننسى أن نكون مرفأ احتواء لآخرين وجدوا فينا ضالتهم، لنصبح بالنسبة لهم نقطة انتماء يحتاجونها، ليواصلوا هم -أيضًا- حياتهم مرتاحين، فالحياة دوائر متصلة/ منفصلة كل واحد منا فيها عبارة عن حلقة وصل بين أفراد سبقوه لما يطمح إليه فينتمي إليهم عساه يُحقق حلمه، وآخرين هو بالنسبة لهم سَنَدهم ونقطة النور التي ستمنحهم الحافز على الاستمرارية والبقاء.

 

*الجملة من قصيدة للشاعرة سوزان عليوان

المقالة السابقةشكرا صديقتي: أجمل رسالة بين الأصدقاء
المقالة القادمةالتسامح يحيي كل جميل
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا