لماذا لا أكتُب عن الأمومة؟!

1924

هديل عبد السلام

قيلَ لي إن الأمومة تجربَةٌ ملهمة، غنيّة بالمشاعر والأفكار، وإنّني سأكتُب أكثر وستتدفقُ الأفكار إلى رأسي بعد أن أرى طفلتي تتنفّس.

صدّقتهم، وقد صدقوا حقًّا.

لكن ما لم أكُن أعرفه، أن شحنة المشاعر تلك قد تكون أكبر من عقلي نفسه، أكبر من أفكاري ومن مشاعري، وأكبر من كلماتي.

 

تمّت طفلتي شهرين منذ أيام قليلة، كل يومٍ من أيام حياتها كان يُشعرني أكثر أنني لا زلت لا أعرف شيئًا، كل يومٍ كان يدفعني أكثر للتعلّم، وكلما تعلّمتُ أكثر ازداد شعوري أنني أجهل الكثير، كل تقدّمٍ تُحرزهُ هي كان يُشعرني كم كنت ساذجة حين ظننتُ أنني أعلم الكثير لأني أقرأ الكثير.

 

وكم تبدو بسيطة تطوراتها في الشهور الأولى! لكنها تُثيرُ في داخلي دهشة العالم.

لقد استطاعت لمس رجلها، كانت سعيدةً جدًا بذلك، ومنذ أيام اكتشفت أن لها يدًا وأنها يمكن أن تضع يدها في فمها، لكن يبدو أنها اكتشفت يدها اليمنى فقط، فظلّت يومًا كاملاً لا تستطيعُ مقاومة وضع يدها في فمها. لم أجِد في نفسي رغبةً في تعكير اكتشافها، فكنت أترُكها تحاول بجدية إدخال كامل قبضتها داخل فمها الصغير.

 

وجدتُ نفسي ألجأُ كثيرًا لأصحاب التجربةِ من الأمهات، كنتُ أجد لديهن أحيانًا ما لا أجده في جُعبةِ الأطباء.

الأم تعلمُ دائمًا، وعلينا تصديقها، حين تبكي طفلتي وأهرع إليها، أسمع الجملة المعتادة، “سيبيها تعيط شوية كده هتتعوّد”. لم أفهم حتى الآن ما الذي ستتعوّد عليه صغيرة في أيامها الأولى! هل ستعتادُ أنني موجودة دائمًا؟ هل ستعتادُ أنّ طلباتها مُجابة؟!

هل مطلوبٌ من الرضيع أن يعتادَ غير ذلك؟!

 

بعد أسابيع من إجابتي لطلباتها في التو واللحظة، طلباتها الإنسانية البسيطة، التي لا تتعدى كونها جائعة، أو متألمة، أو خائفة، أو متعبة. هي لا تبكي لأسبابٍ وجودية لا يمكن حلّها مثلنا نحن الكبار، لا تفكّر في المستقبل ولا في تبعات تصرفاتها الحمقاء أو خياراتها الخاطئة كما أفعل أنا، لذا فإرضاؤها سهلٌ جدًا.

 

بعد أسابيع معدودة من الاستجابة، صِرتُ أعرف طلب طلفتي من بكائها، حتى ولو من الغرفة المجاورة، وصرت أستطيعُ أن أقول بثقة تامة لكل من يطالبني بتركها تبكي قليلاً أو يحاول إقناعي بأن كل الأطفال تبكي بلا سبب، إن طفلتي لا تبكي بلا سبب، وأكادُ أُجزِمُ أن كل الرّضع لا يبكونَ بلا سبب، هذا إن صدّقنا أن الخوف سبب، وأن الرغبة في الشعور بالأمان سبب، وأن الاحتياج إلى حضنٍ آمن أو تأكيد واضح أنّ “ماما هنا” سبب، وسبب قوي للبكاء.

 

طفلتي التي كانت في البداية تحتاجُ أن أحملها حتى تهدأ وتشعر بالأمان وتتوقف عن البكاء، صارت الآن تهدأ حين تسمع صوتي أناديها وهي لا تراني، وصارت تهدأ أكثر حين تشُم رائحتي أقترب، وصارت تضحك وتنسى بُكاءها حين ترى وجهي قريبًا من وجهها أضحك لها، حتى وإن لم أكُن قد حققت طلبها بعد.

 

المرات التي ازداد بكاؤها في وجودي كانت حين شعرت أني خذلت ثقتها، حين رفعتها من سريرها لأطعمها لكنني اضطررت لوضعها مرّةً أخرى لأي سبب، حينها تنفجر في بكاءٍ يتّسم بالغضب. هي لا تبكي من الجوع وقتها، هي تبكي لأن “ليس هذا ما اتفقنا عليه”، توقفت عن البكاء قبل أن تأكُل لأنها تصدّقني وتعرف أنني لن أخذلها، وأنا التي أخللت بالاتفاق من طرفي، فصار من حقها تمامًا أن تثور غاضبة وتُسمع صراخها للجيران.

 

طفلتي التي تعرفُ وجهي من بين الملايين وتعرف صوتي وسط كل الأصوات المتداخلة، وهي التي لا زالت رؤيتها غير واضحة، وسمعها قيد التطوير، تفهمني جيدًا، تفهم نظراتي، وتفهم ضحكتي، وتُقِرُّ على الاتفاقات بيننا وتلتزم بها قدر المستطاع.

وعادةً ما يحدث الخلل منا نَحْنُ الكبار، هي تنتظر طعامها في موعده، وتنتظرُ حمّامها في موعده، ونومها واستيقاظها.

حين أشكو من تغيّر نظام نومها عادةً أكون أنا من أفسدته، بإبقائها خارج المنزل بعد موعد نومها في مكان غير مريحٍ لها، كأن يكون شديد الحرارة أو البرودة أو الضجيج، فتفقد قدرتها على الاستسلام للراحة. أنا أخللت بالاتفاق.. أنا أتحمّلُ النتائج.

 

طفلتي الودودة في أول مراحل اللعب تعلّقت بشيئين، الألعاب في سقف سريرها وبالون هيليوم طائر. الألعاب في سقف سريرها هي أقرب أصدقائها الآن، تنتظر حركتها بشغف، تضحك معها وتكلّمها، حتى أنني صرت أضطر لإزالتها من فوق رأسها كل ليلة حتى تستطيع النوم. هي مثلنا، الصحبة الحلوة تُبقيها متيقظة لأن “الصحبة الحلوة متتعوضش”.

بالونة الهيليوم زوَت وذبلت وفقدت قدرتها على الطيران في النهاية، كدت أشعُر أنها حزينة عليها، ولم تُبدِ نفس التعلّق بالبالون الجديد، حتى أنني فكّرتُ في البحث عن نفس البالون لأجلها.

 

الأطفال أذكياء منذ الولادة، يغلبُ ذكاؤهم العاطفي على أي شيء، يعرفون من يحبهم ومن يكرههم، ويعرفون الفرق بين الضحكة في وجههم والتكشيرة. ويحفظون عاداتهم جيدًا، حتى وإن لم يلتزموا بها طيلة الوقت.

 

طفلتي الصغيرة تنامُ كل يومٍ على نفس الأغاني، حتى أنني لو غنيتُ أغنية مختلفة لا تعرفها تفتحُ عينيها وتنتبه وتنظر بتركيز في محاولة لفهم التغيير، ولا تعودُ للاستسلام للنوم إلا بعد أن أعود أنا إلى أغانيها المعتادة.

كذلك حمّامها الذي اعتدت أن أغني لها “في البحر سمكة” منذ دخولها إلى الماء وحتى ارتدائها لملابسها، هي أيضًا تنتبه لأي تغيير في الأغنية أو اللحن.

واخترعت أغنيةً تناسب وقت تغيير الحفاضات، فصرتُ أدندن لها بصوتٍ مرح “يلا نغيّر نلبس لبس جديد ونضيف”، وهذا كان يجعلها أكثر مرحًا وتقبّلًا لفقرة تغيير الحفّاض المزعجة.

 

عسى أن تظلّ صغيرتي تكتشف، وأنبهر أنا باكتشافاتها في كل مرة، وبذكائها وفطنتها، وأن تظل لدي الرغبة دائمًا في تدوين كل ما تفعل، كل حركة، كل إيماءة، كل ضحكة.

 

الأمومة لا تتفجّرُ فجأة، على الأقل في حالتي، الأمومة تكبُرُ شيئًا فشيئًا وتنمو وتتطوّر كل يومٍ من حياة الطفل، الأمومة تتربّى في داخلي وتزدهر أكثر في كل مرحلة. تتبرعم وترسلُ براعمها إلى كل جنبات عقلي وقلبي، حتى أمتلئ بها وأتعامل من خلالها مع كل شيء، وأرى العالم بنظارتها الجديدة، وكلما كَبُرَت طفلتي ازدادت قدرتي على الكتابة عن أمومتي وعن طفلتي، بحُب، بثقة، بثبات.

المقالة السابقةمسلسل زي الشمس ولعنة سيزيف
المقالة القادمةيا اللي إنتي حبك حرية
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا