لماذا أحب البكاء على اللبن المسكوب؟

996

 

بقلم/ رغد الطیان

 

لا تتجاهل حاجتك للكتابة حین تعصف بذهنك فكرة، لا تتجاهل حاجتك للبكاء حین یعتصر الألم قلبك، لا تقتل حماسك عندما تأتي فرصتك لتحقیق الحلم الذي طالما تمنیته، ولا تتظاهر بالتماسك -حول دائرتك المقربة على الأقل- عندما توشك على الانهیار.

 

ترددت كثیرًا قبل الكتابة في هذا الموضوع.. كثیرًا.. عدة سنوات في الحقیقة. لأن تبدیل مفهوم الحزن السائد المزروع منذ طفولتنا یأخذ أكثر بكثیر من مقال توضیحي، ولأنني أؤمن أن الأمر نسبي في النهایة، وأن لكل تجربة خصوصیتها، وأنني ما زلت أجهل الكثیر، وربما لأنني لم أرِد أن أتحدث عن شيء قبل أن ألمسه بنفسي.

 

في السابق، كنت من أولئك الذین یرتبكون بحضور الحزن، كنت أحاول تجاهله قدر استطاعتي، حتى یمتلئ صدري بكل الدموع التي لم أبكِها، فأشعر باختناق یدوم أیامًا ولا أستطیع تحدید سببه، أصبّه غضبًا على أتفه الأشیاء. كنت أعتقد أن ربما هذا الضیق أتى بسبب معصیة، كعقوبة من الله لي، أو ربما الضیق هو الذنب بحد ذاته، فأنا كمؤمنة لا بدّ أن أرضى وأفرح بنعم الله عليّ ولا یحقّ لي أن أحزن. الحزن كان بالنسبة لي ذنبًا أو عقوبة، وغالبًا هذه فكرة قدیمة زُرعت بسبب الخطاب الوعظي التقلیدي الذي یتكبّر عن الاعتراف بضعف النفس البشریة.

 

لاحقًا، عرفت عن جانب الحزن في حياة أهم وأكثر الأشخاص تأثيرًا في العالم، وكيف اجتمع فيهم شعور الحزن مع الرضا. عرفت -على الأقل- أن هناك مساحة متاحة للحزن. أما عن شكل هذه المساحة وكیف تستخدم وأهمیتها فهذا ما سأحكي عنه هنا. ولكن قبل أن تُكمل، إن كنت ممن أنعم الله علیهم بقلب خفیف لا تدخل المشاعر لعمقه، أو أنه أنعم علیك بالرضا الحقیقي والمناعة الحقیقیة ضد الصدمات، وتستطیع أن تنسى ما أوجعك دون أن تجبر كل مشاعرك على التبلد، فهنیئًا لك على ما أنت علیه، وهذا المقال لن یكون ذا فائدة لك.

 

أما إذا أكملت، ففي البدایة أنا آسفة لأنك مررت أو تمرّ بأمر یسبب لك الحزن، وأعرف أنك تتمنى أن تجد هنا كلمات تواسیك أو تخرجك من حزنك، وأعرف أیضًا أنك سئمت العبارات المكررة التي لا یبدو أن لها أي أثر، وأتمنى أن تجد هنا شیئًا مختلفًا. أما عن الحزن هنا فأنا أخصّ ما یتعلق بالفقد والخسارات والصدمات والخیبات.

 

سیقول أحدهم بأن لیس كل المصائب تستحق الحزن، وهناك الكثیر ممن یعانون من أوضاع أسوأ بكثیر مما تعیش أنت. هذا تمامًا كمن یقول لك ألا تفرح بالنعم المحیطة بك لأن هناك الكثیر ممن حالهم أفضل بحالك بكثیر! ما أرید أن أقوله هو أن لكل شخص تجربة منفردة، كونِك مثلاً عشتِ آلام المخاض والولادة وغیركِ لم یعشها، لا یعني أن الآخر لم یشعر بألم شدید من التهاب في المعدة. المشاعر تجربة شخصیة جدًا، وهي أعقد بكثیر من هذا الاختزال.

 

إذًا فالحزن كشعور لا يمكن أن يكون خطأ، بل السلوك الذي تختار أن تتصرف به هو ما قد يحتمل أن يكون صوابًا أو خطأ. والحزن حق أیضًا، قد نستطیع أن نتحكم بمسبباته فنخفف من وطأته، وقد لا نستطیع، ولكنني أعتقد أنك لا تستطیع أن تقتل إحساسك به عن طریق تجاهله، وإن تجاهلته قد یزداد، وقد یقتحم حیاتك على شكل غضب أو قلق أو یأس. ولكن ماذا عن ارتباط الحزن بالعجز؟ فقط في حالة أنك اعتقدته عیب فیك فإنك ستحاول جاهدًا أن تخفیه حتى عن نفسك، فیقوى علیك ویعجزك، لأن ما تهرب منه یتحكم فیك.

 

قد یؤلمك كثیرًا فقدان شيء ما لأنه ملأ الخرق في نسیج حیاتك، شكله كان ملائمًا جدًا لكي تخیطه كرقعة فوق الخرق. مع الوقت، تماهت الرقعة تمامًا مع نسیجك، فنسیت أو تناسیت أنه مجرد رقعة، وأن الخرق ما زال موجودًا أسفلها. ما یعنیه لنا المفقود هو ما یؤلمنا، الفراغ الذي كان یسده هو الذي یعصف بنا، كخواء غرفة فرغت من سكانها. قد تهوّن التفسیرات المنطقیة آلام الفقد بعض الشيء ولكن القلب عندما یئن لا یسمع ولا یستقبل، شيء یشبه الطفل الباكي عندما تؤخذ منه لعبته، لا یسمع! دعه یبكي، عانقه، ابحث عن من یعانقه.

 

أؤمن كثیرًا أن الطریق خارج الألم لا یكون إلا من خلاله، أن ترضى بأنك مخلوق ضعیف محتاج، یألم على فقد ما هو زائل ناقص محتاج أیضًا، وأن ترضى أن تسمع السبب الذي أوجع قلبك، حتى لو لم یكن منطقیًا، حتى لو علموك أنه لا یستحق الحزن.. صدّقني، حتى إن كان ما یحزنك هو فكرة خاطئة، هذه الفكرة لن تخرج من اعتقادك إلا إن عرفتها واعترفت بها.

 

أما عن كیفیة الحزن.. فأظن أن لكل شخص طریقته، لذلك أرى أن أي طریقة فیها مواجهة ومواساة فهي حسنة ما دامت لا تقطعك عن أهم واجباتك الیومیة، لا أعرف أكثر من هذا، ولكن الشيء الوحید الذي لا أشك به هو أن الدعاء والحدیث مع الله هو الأساس، مهما كنت مُقصّرًا، ومهما شعرت أنك تائه، وحتى لو شعرت أنك لا تستحق رحمته، الجأ إلیه وأخبره بهذا كله.

 

في النهایة.. قد لا یعوضك الله برقعة أخرى تخیطها في فراغات نسیجك، ولكن قد یحصل ما هو أفضل بكثیر، وهو أن تدرك أن طبیعتك البشریة التي خلقك الله علیها، وطبیعة الحیاة التي أنشأها تقتضي أن یكون هذا النسیج ملیئًا بالثقوب، وأن هذا لیس عیبًا یجب أن یخفى، بل هي طبیعة یجب أن تُقبل بحب، وتتعلم ألا تقبل أن تخیط هذه الثقوب بأي رقع، إن لم تكن تتماشى مع مبادئك وأهدافك فلا ضیر أن تبقى ثقوبًا.

 

 

ترددت كثیرًا قبل الكتابة في هذا الموضوع

 

المقالة السابقةأوهام التربية الجنسية
المقالة القادمةبحترم اكتئابي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا