للتوثيق

604

 

بقلم/ آية إبراهيم

 

قالت لي صديقتي ذات يوم إنها لم تعد تهتم بتوثيق التواريخ، وخصوصًا على السوشيال ميديا، وكنت وقتها مهتمة بتوثيق تاريخ كل الأيام المميزة والسعيدة. لم أفهم لمَ قالت هذا، ولم أظن أني سأصل لذلك في وقت قريب من حديثنا.

 

“للتوثيق”.. تلك الكلمة التي أصبحت وصفًا لصور ومنشورات كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ربما لحفلات أعياد ميلاد أو خطوبة وزواج أوعمل جديد، وما شابه من الأحداث السعيدة التي قد تحدث للمرء في حياته، وقد أصبح التوثيق لكثيرين إلكترونيًا فقط من خلال صور تذكارية وجمل مليئة بالحب والامتنان، قد يقرؤها البعض بعد عام واحد فقط، فيندم أنه كتبها أو أنه سمح لأحد أن يقرأها، لأنه اكتشف أنه كان خاطئًا عند فرحته بشيء ما، أو مشاركة شخص تفاصيل معينة، وكثيرًا ما يحدث، فليست كل الذكريات تبقى سعيدة.

 

أتابع ذكرياتي من كل عام على الفيسبوك، كل يوم بعد الثانية عشر صباحًا، فأقرأ منشورات العام السابق، ثم الأسبق، وقلما وجدت ذكرى كانت تستحق التوثيق بهذه الدرجة التي كنت عليها من الاحتفاء بها وقتها.. أحيانًا أضحك على نفسي وأحيانًا أخرى أقرؤها ولا أبالي، وفي الحقيقة حتى اللحظات الحلوة لا يسعدني رؤية ذكراها، لا لشيء سوى لأنها مضت ولم يأتِ مثلها بعد، وهذا يحزنني.

 

لا عليكم من الأشخاص الذين غادروا صفحاتنا بعدما كانوا موجودين فيها أكثر منا، أقول صفحاتنا مجازًا، في الواقع هم غادروا حياتنا أيضًا، لكن لا يهم.

 

لا زلت أضغط على “شاهد ذكرياتك” كل ليلة، لأتأكد أنني كل يوم أصير أغرب من سابقه. وكلما تمر الأيام تبتعد حياتي التي أعرفها عني، حتى كدت لا أعرف من أنا وأين وصلت الآن.

 

التوثيق الإلكتروني قاتل، ليس فقط لأنه يذكرنا بأشياء لا نرغب في تذكرها، بل لأنه يذكرنا أن ثمة آخرين شاركونا في ذلك، وربما يتذكرونها أكثر منا ويتعجبون مما وصلنا إليه، وقد يبدو هذا مخزيًا للبعض.

 

صحيح أنني أنساق للتوثيق عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن لم أتخلَّ منذ صغري عن التوثيق داخل أجندتي الصغيرة التي تتغير كل عام، وتُستبدل بأخرى جديدة، لتشهد على أحداث العام الجديد. وبالطبع لم يطلع أحد على تلك الأجندات وما يحتويها.

 

لديَّ الآن ما يقرب من عشر مدونات ورقية، أفتحها متى أردت. ملامح كل واحدة منها تُذكرني بعام كامل، بأحداثه كلها، وهذا لا يزعجني مطلقًا، بل يأخذني للحظات الحنين التي أحبها، ويحملني أن أستمر في التوثيق على الورق فقط، لأدرك أن كان هناك أيام حلوة لم تبتلعها صفحات السوشيال ميديا وتأخذها لأسفل، فننساها وينفد كل شعور نحوها بمرور الوقت.

 

كذلك تتيح لي مدوناتي الورقية الفرصة لحرقها أحيانًا، إن كانت لا تستحق أن تبقى، أتذكر مشهد حرق الجوابات والصور في الأفلام القديمة، كان البطل يفعل ذلك عندما يدرك أن الأمر انتهى تمامًا ولا بد أن ينتهي كل ما يتعلق به. قد يبدو هذا تقليديًا، لكن قد يكون أفضل بكثير من الضغط بلمسة واحدة على”delete”.

 

أحب أسراري التي أكتبها ولا أحد يعرفها، أحب أن أكون أنا فقط من يعلم قيمة أشيائي، ومؤخرًا كلما زادت قيمة شيء ما عندي أخفيه عن أعين السوشيال ميديا ودوامة “اللايكات” وما يختبئ وراءها من مشاعر مجهولة.

 

ذكرياتي النائمة في طيات أوراقي المُصفرَّة وخطي السيئ وبعض التواريخ التي لم تعد تعني لي شيئًا الآن.. كل الامتنان.

 

التوثيق الإلكتروني قاتل

 

المقالة السابقةسر حلاوة الأفلام الوحشة
المقالة القادمةكحل وحبهان.. وصفة الجمال والتذوق
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا