للآخِر

516

 

بقلم/ وفاء مرزوق

 

“وإن كان لا بُد من فرح فليكن خفيفيًا على القلب، فلا يُلدغ المؤمن المتمرن من فرح مرتين” – محمود درويش.

 

أي حاجة للآخِر بتخضنا وتقلقنا، بنخاف منها سواء بوعي أو بغير وعي. للآخر معناها فقدان السيطرة والتحكم في الحاجة، اللي أوقات بنحب نحتفظ لنفسنا بمساحة أمان من إحكام السيطرة على الأشياء، وفي بعض الأحيان على الأشخاص كمان.

 

في الغالب إحنا مش بنقدر نسيب إيدينا الاتنين مرة واحدة، ولا نطفو بخفة ونسيب التيار ياخدنا ويمشينا.

 

للآخِر معناها المشي في طريق وإحنا مش عارفين ممكن نقابل فيه إيه. للآخِر معناه احتمالية الألم والفقد والخسارة والخذلان. للآخِر معناها الثقة الكاملة والتصديق القوي اللي ممكن يكون في محله أو لأ. للآخِر في الحب و العلاقات بتبان صعوبته وتكلفته بشكل أكبر ومخاطرته.

 

ليه بقى بنخاف نحب للآخر أو ندخل في علاقات للآخر؟

يمكن لأكتر من سبب:

– خوفنا من إننا نبان بكل اللي فينا ونتعرَّى، عيوبنا تبان قبل مميزاتنا. الشعور ده لوحده كفيل يخلينا ناخد خطوة لورا، كحماية لنفسنا وحفاظًا على الشكل اللي عايزين نبان بيه على طول الخط.

 

– لما نبان بكل ما فينا، فيه احتمالية للقبول أو الرفض. واحتمالية الرفض بالنسبة لنا بتكون أقوى في ذهننا لكوننا بشر. فبرضو ده بيخلينا مندخلش في علاقة للآخر.

 

– عدم يقيننا من فكرة الحب غير المشروط، وهي إني محبوب “بالرغم من…”، مش “عشان…”، ده بيخلينا نعمل سور لبعض الأماكن اللي جوانا ونكتب عليها يافطة “ممنوع الاقتراب أو الاكتشاف”.

 

– العلاقات العميقة والحب فيه جانب من الضعف “vulnerability”، علينا إننا نقبله ونسمح لنفسنا وللي قدامنا إنه يبينِّه. وده بيكون صعب، لأننا بنعتقد إن الصورة الأمثل للبشر هي إظهار الجانب القوي اللي فيهم مش الضعيف.

 

– للآخر في العلاقات والحب بيكون معناها إننا ننزل كل أسلحتنا الدفاعية، ونصدق ونفترض حُسن النية وليس سوء النية، وده معناه فقدان السيطرة اللي يمكن يكون بيخوفنا.

 

– قوة وعمق الشعور بالخذلان والترك والألم بيتناسب طرديًا مع عُمق العلاقة. وعشان نحمي نفسنا من الوجع ده، يمكن حتى لا شعوريًا، مش بنختار نروح للآخر في أي علاقة.

 

– العلاقات السابقة غير الموفقة بيكون ليها دور في إننا منتعمقش في أي علاقة تاني. وبيكون جوانا حذر، وكأننا بنختبر أرض غير ثابتة تحت أقدامنا.

 

أكيد فيه أسباب تانية كتير، لأننا بشر متنوعين ومختلفين تمامًا، وخبراتنا كمان مختلفة واستجاباتنا للمواقف بعد كل تجربة بيكون مختلف برضو. وأكيد اللي قرر إنه ميدخلش في أي حاجة في الحياة للآخر عنده أسبابه القوية.

 

وعلى الرغم من إني أشارك البشر في خوفهم من كل ما هو للعمق وللآخر، وأنا مثلهم أريد تجنب الألم والخذلان والترك. لكني لم أستطع منع نفسي من التفكير في التالي:

– اسمها إيه الحالة الوسط اللي بين الحب والكره؟

– إيه هي الحالة الوسط بين القُرب والبُعد؟

– يا ترى كفاية نصف قلب ونصف شعور ونصف خبرة ونصف عُمق؟

– أيهما أفضل: اختبار ملء الحياة بكل ما فيها من مرتفعات ومنخفضات، أم تجنب جزء منها؟

– هل لو تجنبت كل ما هو للآخر وبكل الكيان أكون فعلاً قمت بحماية نفسي؟

– هل الخبرات كلها متشابهة عشان آخد العلاقات كلها بواحدة غير موفقة؟

 

ما يملؤني الآن بقوة هو الخطوط المرسومة صعودًا وهبوطًا برسم القلب. فلو أردت أن يتجنب قلبي كل هذا واخترت الخط الواحد الثابت، لحكمت على نفسي بالموت. وأجد أن الحياة مماثلة تمامًا لذلك، بكل ما فيها من حزن وفرح، نجاح وإخفاق، ابتسامات ودموع، استقبال وتوديع.

 

والمهارة تكمن في المصالحة مع الحياة بكل ما فيها. والشجاعة هي في المحاولات الثانية، وكأنها الأولى، هي الدخول للعمق واختبار ملء الحياة، عمق العلاقات، عمق الحب. ففي الأعماق تكمن المعاني وفي الأعماق تُكتشف اللآلئ. الوقوف على الشاطئ لن يُعطيني خبرة السباحة، وإحكام القبضة لن يُعطيني متعة وحرية الطفو.

 

فإن كان لا بد من حُب فليكن أصيلاً عميقًا في القلب. وإن كانت علاقة فلتكن قوية كقوة الحياة.

 

لا يُلدغ المؤمن المتمرن من فرح مرتين

 

المقالة السابقةالخوف من الزواج: عندما نحتاج الحب ونخشاه
المقالة القادمةكيف نحمي أطفالنا من ديزني؟
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا