القلب الحنين ولغز حنية القلب التي تلين كل صعب

2158

بقلم/ سمر صبري

“ربنا يحنن قلوبكم على بعض دايمًا”.

كانت دعوة جدتي التي طالما اندهشت منها، لأن تصوري المحدود حينها كان يُهيئ لي أن دعوة كتلك تناسب أشخاصًا في حالة خلاف، فتستجديهم الدعوة لأن “تحن القلوب على بعضها”، ويذيبوا خلافاتهم وينبذوها، أما أن تردد جدتي تلك الدعوة وتكررها في أوقات عادية تمامًا ولأشخاص لا خلافات بينهم، فكان أمرًا يستوقفني دومًا. ليس لدرجة أن أستفسر عنه من جدتي، كان مجرد توقف عابر فحسب.

ولو كنت أعلم أن كل ما يدور في رأسنا من أسئلة أمر ينبغي ألا يقبل التأجيل لسألت فورًا، لو كنت أخذت بنصيحة إبراهيم أصلان التي دوَّنها في كتابه “حجرتان وصالة” حينما كتب: “أي سؤال يشغلك اسأليه”، لكنت استفسرت من جدتي لأستخلص الحكمة مبكرًا، ولأسّد على نفسي بوابات الحيرة والتخمين والتكهن، وهي أقسى بوابات قد يعبرها المرء بمفرده.

لم أسأل، فرحلت جدتي ومعها سر الدعوة، تمامًا كما حال كل أسئلتنا التي تؤرق أذهاننا وتأكل من أرواحنا، لا لأن لا إجابة لها، وإنما لأننا لا نبذل محاولات جادة من أجل أن نهتدي لإجابة، ربما لأننا أجبن من أن نتحمل الإجابة أحيانًا، وربما لأن دور التائه المُعذَب يعجبنا تقمصه في أحيان أخرى، وكل سؤال بلا إجابة تيه. ألا يُقال إن الهُدى هو أن تهتدي للحيرة؟

ومع الوقت بدأتُ في الفهم، وبدأَتْ الإجابة على سؤالي بشأن معنى دعوة جدتي تتضح.. بدأ لغز الحنية يتكشف، فعرفت أني كنت محدودة الرؤية، وأن جدتي كانت أحكم مَن رأيت في حياتي.

أطالع ذلك المنشور على فيسبوك الذي يقول صاحبه: “ربنا يرزقك بحد متهونش عليه”، فأعي جيدًا أن جوهر أعمق العلاقات الإنسانية قائم على الحنية، على ألا تهون على الآخر أبدًا وألا يهون عليك، على أن نلتزم في خلافاتنا بالبُعد عن الغلظة والقسوة على أحدنا الآخر، ألا نعاقب بعضًا، وأن نتنازل عن أنانيتنا في أوقاتنا العادية فنهدي أحبابنا من وقتنا، نستمع لقصصهم.. نبادلهم الحكايات.. نشاركهم ما يحبون ولو لم نحبه، كان المعنى الضمني للمنشور أن يرزقك الله في طريقك بمن يتخذ اللين دستورًا في تعاملاته معك في كل الأوقات.. وكان ذلك أيضًا معنى دعوة جدتي.

تستقر تلك الصورة التي طالعتها مرة، في مخيلتي، وأراها فائقة الجمال رغم بساطتها. في الصورة رجل وامرأة يبدو على ملامحهما غضب كل منهما من الآخر، وينهمر المطر فوق رأسيهما، والرجل رغم غضبه يضع شمسيته فوق رأس المرأة لحمايتها من المطر. أُمعن النظر في الصورة فأدرك أن الشمسية لا تقي المرأة من المطر فحسب، بل تقيها الإحساس بالهوان والإهمال. الشمسية لم تهدِها حماية من قطرات المياه، بل أهدتها حنانًا في أوج الخلاف.. في الصورة كانت ترجمة لدعوة جدتي.

أتذكر ملحوظة عابرة قالتها أمي منذ سنوات بعيدة للغاية، في حكاية عن خلاف بين زوج وزوجة، امتنعت فيها الزوجة عن إعداد الطعام لزوجها وأطفالها، لخلاف نشب بينها وبين زوجها، فكان العقاب أن لا غداء لك ولا لأطفالك. توقفت أمي عند ما فعلته الزوجة مستنكرة قسوة قلبها، أستعيد ملحوظة أمي بعد سنوات، فأجد في استنكارها لما فعلته الزوجة ترجمة لدعوة جدتي.

في سفري مع صديقاتي، نتقاسم المهام بيننا، غسل الصحون، إعداد وجبات الفطور، لَم المائدة بعد الغداء، تبدو كل الأمور أسهل وهي مُوزَّعة على أطراف تعيش معًا، لكنني كنت أسعد حينما أجد إحدى صديقاتي تباغتني بكيِّ ملابسي بعد الانتهاء من ملابسها، وكذلك كنت ألمس نظرات الامتنان في أعين صديقاتي إن فعلتُ ما هو أزيد عن المفروض علي.. لا بأس بغسلي الصحون رغم إعدادي للفطور، لا بأس بأن نقدم المزيد ما دمنا نستطيع، وما دام مَن نقدم له المزيد يقابل ذلك بالامتنان والتقدير، وليس أنه شيء واجب أو من المُسلَّمات.

أراجع تصرفات كتلك بيني وبين صديقاتي، فأجد ترجمة لدعوة جدتي.

أمِد الخط على استقامته في شتى العلاقات الإنسانية.. أُمعن النظر في تلك التصرفات الدافئة، فأجدها على قدر بساطتها عمادًا قويًا لاستمرار العلاقات، يأتيني في خلفية رأسي صوت وردة الشجي وهي تغني: “الحنية.. طب فين هي.. ابكي يا قلبي على الحنية”، فأؤمن بأن الحنية كنز فقدانه يستدعي بكاء القلب، وأن الحنية لغز، مَن يفك شفراته ينعم بعلاقات انسيابية دافئة مع أحبابه، لأفهم الآن.. الآن فقط، أن جدتي كانت تدعو لنا بما هو أثمن من النعم المادية الملموسة.. بقلوب لينة تحن على أحبابها في كل وقت، ولا تتخذ القسوة إليها سبيلاً.

المقالة السابقةمعلش.. أصل أنا “دبش”
المقالة القادمةيُتم الصديق

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا