كيف حال قلبك اليوم؟

2246

بقلم/ Omid Safi

ترجمة/ هديل عبد السلام

التقيتُ بصديقةٍ عزيزةٍ منذ أيام قليلة، مررتُ بمنزلها للاطمئنانِ على أحوالها وأحوال أسرتها، حين سألتها “كيف حالك؟”، ردّت بصوتٍ متذمّرٍ خفيض: “أنا منشغلةٌ جدًا، منشغلةٌ دائمًا، أجري طيلة الوقت حتى أنني أنسى التقاطَ أنفاسي، كل شَيْءٍ يحدث في وقتٍ واحد”.

 

بعدها بيومٍ أو اثنين، التقيتُ صدفةً بصديقٍ آخر، وكعادتي سألته “كيف حالك؟”، لأتلقّى نفس الرّد بنفس نبرة التذمُّر تقريبًا، “أنا منشغلٌ جدًا، لديّ الكثير لأفعله ولا وقت لأي شيء”. النبرةُ دائمًا ما تحملُ الكثير من التّعب والألم وشعورٌ ما بالانهزام و”الغُلب”.

 

حين انتقلنا إلى بلدٍ جديد منذُ أعوام، كنّا متحمّسين جدًا لهذه الخطوة، الجيرةُ والصحبة كانت متنوعّة وعائلية وتُشعِرُ بالأُلفة، مما يبدّد كل مشاعر التردّد، كل شَيْءٍ بدا جيدًا للغاية، الْحَيَاةُ تنتقلُ بِنَا إلى الأفضل، كل شيء كان صحيحًا.

 

بعد أن استقرّت أمورنا، زرنا أحد الجيران، سيّدةٌ لطيفة، تجاذبنا الأحاديث ثمّ سألناها إن كان يمكن لابنتها أن تشارك ابنتنا اللعب في وقتٍ ما، فأمسكت الأم هاتفها وظلّت تنظرُ إلى الشاشة باهتمام، تبيّنَ فيما بعد أنها كانت تفحصُ أجندة المواعيد، بعدَ ثوانٍ من الصمت قالت أخيرًا: “لديها ٤٥ دقيقة من وقت الفراغ بعد أسبوعين من الآن، باقي الوقت مقسّمٌ بين المدرسة، ودروس البيانو والتدريبات الصوتية والرياضة، وقتها مشغولٌ للغاية”.

 

العادات المدمّرة للغاية تبدأُ عادةً مبكرًا.. مبكرًا جدًا.

كيف فعلنا هذا بأنفسنا؟! متى وصلنا إلى هنا؟! ولماذا نفعلُ هذا بأنفسنا ونستمر بفعله رغم التعب؟! وكيف نكرره في أطفالنا؟! متى تناسينا أننا بشر ولسنا آلاتٍ مكلّفةٍ بأعمال محددة فقط؟!

 

ماذا حدث للعالم الذي كان الأطفال فيه يلعبونَ في الطين، يتّسخون وتعمّهم الفوضى بكل أشكالها؟! ويملّون، متى أصبح مللُ الأطفالَ الذي يدفعهم لابتكارِ ألعابهم الخاصة شيئًا من الماضي السحيق؟! هل كان علينا أن نُحِب أطفالنا للدرجة التي تجعلنا نرهقهم بجداول الواجبات والمهارات والتمارين، وندفعهم إلى الانشغال الدائم والتوتر الدائم مبكرًا جدًا، مثلنا تمامًا؟!

 

ماذا حدث لعالمٍ يمكّننا من الجلوس مع أحبائنا بلا هدفٍ محدّد أو خطةٍ مسبقة، فقط لنتبادل الحديث عن أحوالهم، عن أحوال قلوبهم وأرواحهم، أحاديث تتفتّح بتأنٍّ، محمّلةً بالمشاعر وبلحظات السكون والصمت الذي لا نستعجل ملأهُ كأنهُ يُعيبنا؟

 

متى صنعنا عالمًا مليئًا بالكثير والكثير مما يَجِبُ فعله، مع القليل من أوقات السكون والتأمل، القليل من وقت التواصل الإنساني، والقليل من الوقت للوجودِ وحسب، دون الحاجة لملء كل لحظةٍ فارغة بِشَيْءٍ ما.

 

قرأتُ في مكانٍ ما أن “حياة لم تُختَبَر هي حياةٌ لا تستحقُّ العيش”. كيف لنا أن نعيش ونختبر الحياة، ونصبح بشرًا كاملين، إنّ كنّا لا نملك الوقت لاختبار أي شيء لأننا مشغولون جدًا؟!

من صنع هذه الدوامة؟!

 

مرض الانشغال الدائم “اللا راحة”، ويجبُ أن نسمّي الأشياء بأسمائها “لا – راحة” حينَ نصيرُ دائمًا في رحلةٍ مستمرةٍ من الرّكض. هو مرضٌ مدمّرٌ للروح والصحة والجسد، فهو يمتصُّ قدرتنا على أن نكون حاضرين حقًّا بعقولنا وأجسادنا مع أحبائنا وعائلاتنا، ويمنعنا من تكوين علاقاتٍ صحيّةٍ وحقيقيةٍ نرغب فيها ولا نصِلُ إليها.

 

منذ خمسينيات القرن الماضي، حظي العالم بالكثير من الاختراعات التي ظننّا -أو هكذا وُعِدنا- أنها ستجعلُ حياتنا أسهل وأسرع وأبسط. لكننا لا نملكُ الآن نصف ما كنّا نملكه من البساطة والراحة التي كنّا نملكها منذ عقود.

 

بالنسبة إلى بعضنا (المحظوظين) أصبح الخط بين وقت العمل ووقت المنزل غير واضحٍ بالمرة، نَحْنُ نمسكُ بالأجهزة الإلكترونية طيلة الوقت تقريبًا. الهواتف والحواسيب النقالة جعلت التفريق بين أوقات العمل وأوقات العائلة شبه معدومة.

 

واحدٌ من المعاناة اليومية هو سيلُ “الرسائل الإلكترونية”، والذي يمكن تسميته بالجهاد ضد الرسائل، عشرات أو مئات الرسائل اليومية والتي تدفن صاحبها تحتها بصورةٍ يومية ولا يعرفُ سَبِيلاً لإيقافها مهما اختلفت الطرق، الرّدُ في المساء فقط، أو عدم الرد في عطلة نهاية الأسبوع، أو الترتيب لمقابلاتٍ شخصية أكثر، عادةً ينتهي الأمر إلى نفس النتيجة، لا شيء يوقف الرسائل، على اختلاف أشكالها: رسائل شخصية، رسائل عمل، خليطٌ بين هذا وذاك، والجميعُ ينتظرُ ردًّا الآن، وأنا كذلك أنتظرُ الرّد الآن، مما ينتهي بِنَا جميعًا مشغولين للغاية.

 

النسخ القديمة من الأسرة أو العائلة التي يعملُ فيها أحد الوالدين فقط خارج المنزل ولساعاتِ عملٍ محدودة، قد شارفت على الانقراض، أصبح لدينا الآن إما عائلةٌ أحادية يغيبُ فيها الطرف الآخر طيلة الوقت للعمل، وإما عائلةٌ معدومة الأطراف، يغيب الطرفان طول اليوم للعمل. ماذا حققنا من هذا؟ لا يَجِبُ أن يكونَ الأمرُ هكذا.

 

في الثقافة العربية، حين ترغب في السؤال عن أحدهم، تقول له: “كيف حالك؟”، بالفارسي: “چطوري؟”، كيف هو “حالك؟” ما هي “الحال” التي نتساءل عنها؟ هي الحالة المؤقتة لقلب الشخص، في الواقع نحن نسأل “كيف حال قلبك في هذه اللحظة بالذات، في هذا النّفَس؟”، حين أسأل “كيف حالك؟” فهذا هو حقًّا ما أريدُ معرفته.

 

أنا لا أسأل كم عدد المهام المطلوبة منك، ولا أسأل عن عدد الرسائل الواردة إليك اليوم، أريدُ أن أعرف كيف حال قلبك الآن، أخبرني، أخبرني أن قلبك مبتهج، قل لي إن قلبك يتوجّع، قل لي إن قلبك حزين، قل لي إن قلبك يتوق للمسةٍ إنسانية حانية. تفحّص قلبك من الداخل، اختبر روحك، وأخبرني شيئًا عن قلبك وروحك لا عن جدول أعمالك.

 

قل لي إنَّك ما زلت تتذكّر أنَّك إنسان، ولست جدول أعمالٍ متحرك، أخبرني أنَّك أكثر من مجرد آلة تشطب عَمَلاً إلى الآخر من قائمة الأعمال المُعَدّة مسبقًا.

 

اندمج في تلك المحادثة، تلك اللمحة الإنسانية واللمسة المفتقدة، كُن الشخص الذي يسأل عن أحوال قلوب الناس ويدفعهم للبحث في دواخلهم لا في جدول أعمالهم، ويدفعهم للانخراط في محادثاتٍ مليئة بالحضور الإنساني والتراحم.

 

ضع يدك على كتفي، وانظر إليّ عينًا إلى عين وقلبًا إلى قلب، أخبرني شيئًا عن قلبك وأيقظ قلبي الخامل، ذكّرني أنني أنا أيضًا إنسانٌ كامل، إنسانٌ يتوق للتواصل الإنساني.

 

الطلبةُ في الجامعات الآن يرفعون شعار “ذاكر بقوة.. احتفل بقوة”، وهو الشعار الذي يعكس بدوره ثقافة الانشغال الدائم التي طغت على حياتنا، حتى صار مفهومنا عن الترفيه مرهِقًا بدوره ويعتمد الكثير من الإثارة والأكشن، نبحثُ عن الأدرينالين في كل مكانٍ كالمدمنين، مفهوم الراحة في حد ذاته أصبح مشوّهًا مشوّشًا.

 

أنا لا أملك أي حلولٍ سحرية لما وصلنا إليه، كل ما أعرفه هو أننا فقدنا قدرتنا على أن نحيا كبشرٍ كاملين، لا نبحث بشكلٍ دائمٍ عن الإثارة لتُكمِل شعورًا ما لدينا.

نحتاج إلى مفهومٍ جديدٍ في حياتنا للعمل، للتكنولوجيا، نحن نعرف تحديدًا ما نريده: حياة ذات معنى، شعورٌ بالتواصل، وجودٌ متوازن.

 

هناك مقولة للشاعر الآيرلندي ويليام باتلر ييتس: “الشجاعة التي تحتاجها لتختبر الأركان المظلمة في روحك، أكثر من تلك التي يحتاجها الجندي في ساحة المعركة”.

كيف سنتمكّن من اختبار أرواحنا ومناطقها المظلمة إن كنّا دائمي الانشغال إلى هذه الدرجة؟! كيف لنا أن نختبر الحياة؟!

 

أنا سجينٌ دائمٌ للأمل، لكني أتساءل إن كان لدينا الرغبة في إجراء الأحاديث المطلوبة مع أرواحنا ومع المحيطين بنا لتغيير الكيفية التي نعيش بها الآن. بشكلٍ ما نحن نحتاج إلى شكلٍ مختلف تمامًا لترتيب حياتنا ومجتمعاتنا وعائلاتنا.

 

أريدُ لأولادي أن تتسخ ثيابهم في اللعب، أن يشعروا بالفوضى، أن يشعروا بالملل. أن يتعلّموا بأنفسهم كيف يصبحون بشرًا كاملين.

أريدُ لنا أن نحظى بنوع الوجود الذي يُتيحُ لنا أن نتوقّف، ننظرُ العين إلى العين، نتلامس، ونخبرُ بعضنا، “تلك هي حال قلبي اليوم”، أنا أستقطع الآن الوقت لأختبر وجودي وأشاركه مع من أحب، أنا على اتصالٍ كافٍ الآن بقلبي وعقلي كي أعرف كيف أُجيب عن حالي، وأعرف جيدًا كيف أعبّر عن حال قلبي.

 

“كيف حال قلبك اليوم؟” لا أملك حلاً سحريًا، لكن على الأقل يمكننا أن نبدأ بالإصرار الدائم على التواصل الإنساني، قلب لقلب، فعندما أسأل عن حال صديقٍ أو حبيب ويجيبني “أنا منشغلٌ جدًا”، يمكنني أن أستدركه “أعرف يا عزيزي، كلنا منشغلون، لكنني أريد أن أعرف حقًّا.. كيف حال قلبك؟”.

 

ـــــــــــــــــــــــــــ

المقال الأصلي

The Disease of Being Busy

 

المقالة السابقةلوِّن لحافك
المقالة القادمةخاف من خوفك
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا