كيف تعود بعد الحب الأول إلى نفسك

1195

 

بقلم/ فاطمة عادل

 

ألست أنت من يحترف الفراق، بأن تقف على رأس نهايات بلا أوجاع تُذكَر؟! تشهد الدمع في عينَي مَن أحبك، وتطبع قبلة الوداع الأخيرة ببراعة رومانسية الأبيض والأسود! قلبك مغامر لا يرى محطات الفراق ولا حتى الهجر. لا دم يجري في عروقك ليريقه الحب أو غيره. لا فراغ في أي منك قابل لأي شيء. فخيبة حبك الأولى لم تُبقِ في قلبك ما يُكسَر، ولن ينال فراق حبيب بعدها -أيًّا كان- من قلبك ما ناله الحزن في هزيمتك الكبرى.

 

أنت خير من أعلن حلول النهاية حين ضعف الحبيب، فهان قلبه عليك، ظننت أن الحب ما هو إلا للحبيب الأوَّلِ، وقد صدق ظنك، ولكنه لم يسعفك بـ”لكن…”، ليقول لك إن الحب الأول لا يتعدى كونه حبًا أول، نوع من البذخ الوجداني، لكن الحب الثاني ضرورة وجودية، إن مات فلن يفتك بقلبك أو يمسسه بسوء، لكن سيفتك بكيانك ويبعثر ما تبقى من “أنت”.

 

لأن حبًا ثانيًا إن أتى يأتي متأخرًا، لكنه مُحمَّلاً ببشارة أن تُحِب وتُحَب، كما لو كنت أنت قبل كل ذلك. يأتي نافيًا كل شكوكك، مُنقِذًا لذاتك من ازدرائك لها، بعد فشلها الذي ما زلت تمحو آثاره من وجهك، كلما التقيت ما يشبه حبيبة جديدة. فإن مات هذا الحب المنقذ، تركك تغرق في نفسك، باحثًا عما تبقى فيك من حطام، وما إذا كان هذا الحطام يستحق حب أحدهم.

 

ستتربص بك بداية الحكاية في كل مكان، فيجب أن لا تسلم من ضريبة حب باهظ كذاك، غَمَرَك بالسعادة ما يكفي لأن تبقى مدينًا للدنيا، رغم كل نذالتها معك الآن، وسيندَسُّ عطر الحبيبة في شوارع ستبقى حبيسها، كما يحتم الفقر والقهر وقلة كل شيء، وسترف ضحكاتها على أغنية تُفضِّلها، ستلعنها كثيرًا، تعيد نفسها عليك كل يوم عبر الإذاعة المحلية وأنت في طريقك إلى حبيبة أخرى طارئة، تنتشلك من مأزق الاتحاد بالوحدة، وما بعد الحكاية معًا. لأن الحبيب لا يمحوه إلا حبيب آخر، في أقرب وقت ممكن. هذا حتى لا تصدأ في عزلتك، حتى لا تنقض عليك الصور والمشاهد عندما ترى خيال الحبيبة ما زال عالقًا بالأريكة، حيث كنتما تحتسيان الحب قُبلاً ودمعًا وعشقًا، وأنت وحيد تقلبك ساعات الليل على سواد لا نهائي لا يبكي عليك أحد.

 

وبعدها يجب أن تكتشف أو تبتكر طريق العودة إليك.. إليك كما كنت قبل المَسّ الثاني.. إليك قبل أن تنقلب الأشياء عليك.. طبعًا ستتخذ أقصر طرق الهروب وتنام، وتستيقظ علَّك كنت تحلم، ستحقن نفسك بأخبار اقتتال العالم اللا نهائي، ستبحث في كوارث أخرى لا تفهمها شرط أن تكون طبيعية، وحوادث من لا تعرفهم، لتدرك كم هو سخيف الوجع الذي أنت فيه.

 

ستشكك في كونك قد أحببت أصلاً، فلربما اختلفت عليك المشاعر، ونسيت هذا الذي يتكالبون عليه: الحب. ستقوم بتخديرك بأكبر قدر ممكن من المنطقية، فأنت رجل ناضج الآن، ستكون أعقل من نفسك، وأكثر استسلامًا لقدرية الأشياء، وأكثر حرصًا على عدم منازلة الألم، فهو القادر المنتصر، وأنت تحترم المنتصر، خصوصًا عندما يكون قاتلك. ستمنحه منك ما يشاء، وطبعًا لن تفسر كيف وقعت في فخ الغرام ثانية، لأن التحليل والتفسير ما هو إلا انتقام منك، وأنت حزين لدرجة الطيبة، حتى مع نفسك. ستخفي خبر خسارة وقوع حبك مرة أخرى عن كل من بارك لك بـ”مش قلتلك؟ تنساها وتنسى أبوها كمان!”. فلا تستطيع أن ترى حجم الفرحة ثم الفاجعة على وجوههم في وقت قياسي، وستخفيك عن أعين المتطاعمين على قلبك الذين لا يستحقون حتى حطامك.

 

للأسف رغم كل حكمتك، جمعت أكبر قدر ممكن من الضعف، أو ما يسمونه ذكريات، دون أن تدرك يومًا أن الذكريات ذاتها ستصبح يومًا لعنة ترقص حولك، وتلصق نفسها بكل ما هو لك، تعود إلى منزلك تطل على الشرفة، ولا تعرف أتطل على يومك أم أمسك. تحتسي مشروبًا يهدئ أعصابك التي ينقصها كل شيء إلا الهدوء، تسكبه في كأس رائعة تصلح للاحتفاء، اشتريتها وكأنها تهيئ طقوس خسارتك وحيدًا. تنظر إلى زهرة الأوركيد وقد سلمتها الشمس موتًا جافًا. كم مرة يجب عليها أن تقول لك ألا تترك الأوركيد عاريًا؟! لكي يعيش الأوركيد يجب أن يعيش بعيدًا عن جرأة الشمس. اتركه خلف زجاج أو خلف ستار، ليرى الشمس دون التماس.. ربما لهذا تركتك؟!

 

عندما مات حبك الأول فقدت جزءًا منك، لكنك عندما فقدت حبك الثاني فقدت ما تبقى منك. فأيهما أعنف وأكثر تنكيلاً؟

أنت لم ترتكب خطأ عندما استسلمت لغواية الرومانسية في زحمة المدينة الباردة.. التي لا يحبك فيها أحد. ولم تخطئ حين صدقت أن بإمكانك أن تنسى من نسيك بشخص لن ينساك، ولم تخطئ حين عثرت على قلبك في يد إحداهن تلهو به، لكنك أخطأت حين تركت للكبرياء متسعًا بينك وبين حبيبتك الأولى، فلم توضح: إنه قلبي ذاك الذي تلهين به.

 

جوانب الحب الثاني.. بخساراته وروعته

 

المقالة السابقةرسالة إلى شمس
المقالة القادمةسر حلاوة الأفلام الوحشة
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا