كم أنتَ قاسٍ أيُّها العالم!

567

كأنّني على سطحِ كوكبٍ آخر

أتسلّى بنجومِ علبةِ ثقابٍ في قاعِ قبوٍ

يقعُ تحتَ لافتةِ “نهاية العالم”.*

(1)

كل الأشياء حولي تتداعى.. هكذا يبدو العالم في عيني، وأنا على حافة الهاوية أشعر بالاضطرار للمقاومة وإنقاذ كل الطابات التي ألقيتها في الهواء بوقت سابق. لكني في الوقت نفسه أعرف أنني من داخلي أريد السقوط، وأن يتركني مَن حولي لدوامات اللا شيء تبتلعني، علَّني أستريح من سياط نظرات الاتهام الدائمة.. نظرات الآخرين، ونظراتي لنفسي.

(نهار داخلي)

أستلقي على الأرض في ورشة تهدف للعلاج النفسي من خلال الرقص والحركة، تُخبرنا المدربة أن نترك أنفسنا للأرض تبتلعنا وترسل لنا رسائلها الخاصة فنحاول ترجمتها، والأهم أن نكتشف الوضعية المريحة أكثر بالنسبة لنا.

أُفاجأ -على غير المتوقِّع- بأنني أرتاح بالوضع الجنيني، أتكوَّر على نفسي لأحتمي من كل الأصوات مِن حولي التي تخبرني أنني سيئة أو فاشلة أو غير كافية، فيما أحاول استرجاع الشعور بأنني لست مِلكًا لأحد، وأنّ من حقي وقتًا مستقطعًا لا أكون فيه مسؤولة عن شخص ما/ وظيفة/ أو أي مهمة.

كم من أجنحتي أهدرتُ
لأقولَ جملةً مبهمة!*

(2)

الشعور بالذنب ينخر عظامي، ويتغذى عليَّ، الذنب من أنني لست زوجة جيدة، ولا أمًا هادئة، لست ابنة مهتمة، أو كاتبة متفانية، ولا حتى حامية جيدة لنفسي ضد الإساءات التي لا أشعر أنني أستحقها، والتي متى حاولت الدفاع عن نفسي أمامها واجهتني اتهامات جديدة بأنني أوجد لنفسي المبررات بدلاً من الاعتراف بالحقيقة.

(نهار داخلي 2)

في عيادة طبيبة السلوكيات التي ذهبت إليها أشكو من تَغَيُّر ملحوظ بسلوك ابنتي للأسوأ، تُفاجئني الطبيبة بأنني التي أحتاج للتَغيُّر لا ابنتي، وأن التي ستخضع للجلسات العلاجية هي أنا! تُطالبني بتغيير روتين يومي، ومواعيد وجباتي وتقسيم وقتي، وحتى عملي تتدخل به مُشيرةً لأنه يؤثر على نفسيتي وحياتي الشخصية بالسلب.. فأبكي.

كم تبدو الحيواتُ سعيدةً عن مسافة

خلفَ الوجوهِ والنوافذ! *

(3)

سقف التوقعات المرتفع المطَالب مني الوصول إليه صار مثيرًا لأعصابي، يُشعرني بالضغط طوال الوقت مهما بدا ما سأقوم به سهلاً أو بسيطًا. شعوري الدائم بأنني قَيد التقييم، وأن هناك من سيُحاسبني حين أُخطئ، يُشعرني بمزيج من القلق والإحباط والخذلان.. والظلم.

(ليل داخلي)

في كورس حَرَكي آخر، تطلب منا المعلمة أن نفكر في الوقت الأسعد لنا من حياتنا اليومية، وأن نتمسك بهذه اللحظة أطول فترة ممكنة، أبحث على مدار اليوم فلا أجد شيئًا! اليوم يبدو مُرهقًا أيًا كانت إيجابياته، فأغضب لأنني لا أجد شيئًا أحبه في يومي.

أحاول التفكير أكثر فأكتشف أن الوقت المفضل لي شيئًا من اثنين، إما وقت النوم، حين أسحب “الفيشة” عن طواحين رأسي لتَخرس عفاريتي. وإما الوقت الذي أقضيه وحدي تمامًا بلا أصدقاء أو أهل أو عمل، أمارس اللا شيء دون الشعور بأن هناك التزامات تطاردني أو توقعات تُشعرني بالنقص.

لفرطِ النقاءِ في كلِّ نسمةٍ تلمسُ وجهي

أكادُ ألتمسُ العذرَ لكلِّ ما أبكاني*

(4)

بالطبع اللوم كله لا يُصَب على الآخرين، فجزء كبير من المعضلة تتحمله تناقضاتي، التي بسببها تتفرَّق أسباب بهجتي بين أشياء لا علاقة بين بعضها وبعض، ولمَّا كنت أرغب العَيش سعيدةً أُقرر السَعي خلفها كلها، أطرُق الأبواب فيرزقني الله الإجابة التي بدورها تجعلني أخطو خطوات للأمام.

ومع كل خطوة يزداد فيها رصيدي من السعادة والأمل والاحتمالات، تتضاعف كذلك “التاسكات” من حولي وتتكاثر  “الكراكيب”، فأقف بعدها عاجزةً عن ترتيب أولوياتي ويخَتَلّ كل شيء، ومع ما أملكه من تردد جَسيم أجد نفسي أغرق أكثر بسبب عَجزي عن الاستغناء.

(ليل داخلي 2)

في عيادة السلوكيات أجلس مُتحَفزةً للهجوم، أنتظر الطبيبة كي تطالبني بشيء جديد أفعله لأهاجمها مُفَرِّغةَ بها كل مشاعري السلبية. أخبرها أنها تؤذيني وأنني جئتها لأستريح لا لتحَمِّلني المزيد من المَهمات، فتُطالبني بضرورة التخفف من بعض المسؤوليات، والتَوَقُّف عن جلد الذات كلما فشلت بالحصول على الدرجة النهائية بكل ما أفعله بحياتي، مؤكدةً أن هذا ليس فقط غير منطقي بل ومستحيل.

أيُّ مقهى أنتقي كي ألتقيَ نفسي؟*

عزيزتي أنا..

توقفي عن إخبار نفسك أنكِ لست جيدة بما يكفي، فأنتِ أيضًا لست على هذا القدر من السوء، وإياكِ أن تستهيني بتَعَبِك ومحاولاتك الدائمة للإصلاح. لكن الأهم هو أن تتوقفي عن الإيحاء للآخرين بأنكِ بطلة خارقة. عيشي الحياة كامرأة عادية ليس لديها أكثر مما تملكه لتقدمه، فإما يكتفي الآخرون بكِ كما أنتِ وإما فليرحلوا دون لوم أو عتاب، تاركينك مع ندباتك وجروحك والغيوم الهائلة التي سيخلفونها وراءهم. فيما يظنون أن عدم اكتراثك بالفيضان المُحتَمَل ناتجًا من تَعَلُّمك السباحة حديثًا، لا يعلمون أن سر ابتسامتك الصامتة التي تعلو وجهك هو نِيَتِك الخَفيّة لترك نفسك للانزلاق داخل هُوَّة سحيقة تُغريكِ بالغرق.

..

*العنوان والاقتباسات من قصائد للشاعرة سوزان عليوان.

المقالة السابقةحتى وإن لم يكن للعزاء معنى
المقالة القادمةأكره دواء السعال المر
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا