كان جميلاً.. وكان حلمي أن ألقاه

758

 

 

هبة عبد العليم

 

عندما عُرِض مسلسل “الراية البيضا” لأول مرة كنت فقط في السابعة من عمري. في النهار كنت أجري في المنزل وأنا أقول بعلو صوتي “ولا حمو.. التمساحة يلا”، وفي المساء عندما أسمع موسيقى شارته المميزة أترك كل شيء وأتسمَّر أمام شاشة التليفزيون. أستغرق بكل حواسي في الصراع الدائر بين “فضة” و”د. مفيد” على فيلا أبو الغار.

 

ارتبطت جدًا بالدكتور “مفيد”. شيء فيه جذبني، وقفته المستقيمة الشامخة، هدوؤه، الكتب التي كانت تملأ بيته، كنت أنتهي من مشاهدة الحلقة وأنظر لأمي وأسألها “مش هتعرف تاخد منه الفيلا .. صح؟”.

 

عندما كبرت ووعيت قليلاً وفهمت الفارق بين الحقيقة والتمثيل، ومعنى أن يعمل الشخص ممثلاً، كان جميل راتب من أوائل الممثلين الذين اهتممت بالسؤال عنهم.

كنت أسأل أمي بطبيعة الحال: هو الممثل ده اسمه إيه؟ عمل إيه تاني؟ مش بييجي كتير في التليفزيون ليه؟

فتُجيب أمي بأنه بدأ التمثيل على كبر وأنه ممثل جديد.

 

لم تكن أمي تعلم شيئًا عن جميل راتب أسطورة المسرح الفرنسي، كذلك أنا لم أكن أعلم.

 

ظللت أتابعه وأحفظ أدواره. تشكل وعيي من شخصيات كثيرة قام بها، فهو أبو الأولاد الصغار رفاق طفولتي في “غدًا تتفتح الزهور”، وهو “رشوان” الذي أضحك من المقالب الكثيرة التي ينالها على يد “إبراهيم الطاير”، وهو “لطفي الشرير” الذي يضطهد “سنبل”، وهو “بسيوني” الرجل الطيب الذي لا يريد أن يتقاعد فيؤسس عملاً وشركة مع أصدقائه بدون علم زوجته المتسلطة في “الزوجة أول من يعلم”.

 

مرت السنوات وكبرت، ولم أنس أبدًا هذا الممثل الغريب المختلف وسط أقرانه من ممثلي السينما والتليفزيون المصريين. صار اسمه على مقدمة أي عمل فني، يعني أنني سأجلس متسمرة لمدة ساعة على الأقل أمام الشاشة أسيرة لكل هذا الحضور الطاغي.

 

وعندما كبرت وبدأت دراستي الجامعية كان مسرح الجامعة يحمل لي شيئًا سيظل مشتركًا بيني وبينه إلى الأبد. فقد بدأت عملي كمديرة لخشبة المسرح في مسرح الجامعة. وبدأت عملي مع الفرقة بمسرحية “زيارة السيدة العجوز” لفريديتش دورينمات.. العمل العظيم الذي قدمه مع سناء جميل على مسرح دار الأوبرا بعنوان “الزيارة”.

 

حلمت كثيرًا بحضور العرض. حاولت كثيرًا توفيق مواعيدي لأتمكن من الحضور، وفي كل مرة كانت جهودى تكلل بالفشل والدموع.

أدركت أن ليس من المقدر لي أن أراه وجهًا لوجه. فاكتفيت بالبحث عن تاريخه وأعماله.

وعرفت أن معلومتي الأولى عنه خاطئة تمامًا.

 

فجميل راتب الذي أحَبَّ الفن منذ صباه، تحدى الجميع وترك دراسة القانون في الجامعات الفرنسية ليصبح ممثلاً. وقف على خشبة المسرح الفرنسي وصنع مجدًا قل أن يصنعه ممثل عربي آخر.

تركهم هنا يتحدثون عن أوهام العالمية والوصول للغرب والأعمال المشتركة، وصنع مجده منفردًا بعيدًا عن السرب.

 

أشاهد صور شبابه مؤديًا أدواره في السينما والمسرح بطول أوروبا وعرضها، وألعن حاجز اللغة الذي يمنعني من مشاهدة تلك الأعمال، فأعود مرة أخرى لبداياته في السينما المصرية. تلك البدايات المختلفة عن كل أعمال معاصريه.

 

هل يمكنني أن أنسى “طارق مظهر” في رائعة كاتيا ثابت “ولا عزاء للسيدات“، أو دور “أفندينا” الذي دمر حياة “شفيقة ومتولي” أو دور “رشدي” في “على من نطلق الرصاص” أو دور “أحمد سيف الدين” في قصة “ضيف على العشاء” لكاتيا ثابت ضمن فيلم “حكاية وراء كل باب” مع فاتن حمامة؟!

 

ظللت مرتبطة به وبأدواره، وحينما أدَّى دور “أبو الفضل جاد الله” أبو “ونيس” شعرت أن جدي عاد للحياة من جديد.

وحينما أدى دور “الخواجة جيوفاني ديلورينزي” عميد الطليان في “زيزينيا”، تأكدت أن السحر القديم ما زال موجودًا رغم مرور السنين.

 

وبالأمس مات جميل راتب.. مات وترك وراءه فنًّا عظيمًا لكل العرب والفرانكفونيين. مات وبكاه المصريون والعرب والفرنسيون.

مات وترك سيرة عظيمة ومسيرة أعظم وفنًا خالدًا لا يموت.

مات جميلاً مثلما عاش جميلاً.

 

 

 

المقالة السابقةتعديل سلوك الطفل الجنسي، علاج السلوك الجنسي عند الأطفال
المقالة القادمةودّع صاحبك العبء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا