في بيتنا متنمر

1157

بقلم/ ريم ربيع

كانت دائمًا ما تستقبلنا بابتسامتها السمجة المعتادة لتتفحصنا بعين نافذة، تبحث في مظهرنا عن أي عيب تراه فتضعه تحت الميكروسكوب، وتبدأ بتشريحه مستخدمة لسانها السليط وكلماتها المسمومة التي تخترق القلب قبل الأذن، تتناول فيه بشرتي السمراء مُعلِّقة عليها في مقارنة مستنكرة حول مدى شذوذها عن باقي العائلة، معقِّبة بعدها بسؤالها الشهير: لماذا لست بيضاء مثل أمك؟!

 

أستقبل السؤال دون رد أجده، فأنكِّس رأسي إلى الأسفل وأعض على شفتي في خجل من لوني، وأنصرف ساخطة متمنية لو كنت أكثر بياضًا، لأتجنب تلك المواجهة المؤلمة، مع ترديد سؤالها المستنكر في حسرة كنغمة حزينة ترن في عقلي، لا تجد لنفسها مستمعًا.

 

ثم يأتي الدور على ضحية أخرى تقف بجواري، تتناول فيها خصلات شعرها المتمرد بعين قاسية، متجردة من كل رحمة بضعفها الطفولي، مكرِّرة نفس السؤال المستنكر بصيغة أخرى: لماذا شعرك ليس ناعمًا مثل أختك؟!

فتسكت هي الأخرى وتذم شفتيها في حسرة على ذلك المتمرد، وتنصرف مُحمَّلة بلعنات، مصوِّبة إلى نفسها وشكلها وتلك الجينات الخائنة التي وهبتها ذلك الشعر المشؤوم.

 

ولم يسلم صديقنا الصغير من ضربات السوط هو الآخر التي نزلت على أنفه الطويل بشتى ألوان التعذيب والسخرية، جعلته يبكي كمدًا ويفضِّل الانزواء بعيدًا عنا، رافضًا أي محاوله للعب واللهو الطفولي المقدس، معتقدًا بعدم أحقيته بالاستمتاع جزاء وعقابًا له.

 

اعتدنا دائمًا أن ننظر معًا إلى المرآة متفحصين تلك النواقص في أشكالنا، ناقمين على أنفسنا، كارهين لعيوبنا، حاسدين لغيرنا ممن تحلُّو بكمال الجمال، متمنين لو كنا مثلهم، أو أن يأتي الغد نتحول فيه ونصبح قريبين من ذلك النموذج المثالي المفضل لدى قاضينا القاسي، متخلين عن حكايات وشواغل الأطفال التي لا تأبه لشكل ولا مظهر، فتتراكم على عواتقنا الهموم ويصبح شغلنا الشاغل أن ننول الرضا ونكمل العيب، معتقدين بعقلنا نصف المكتمل وغير الناضج أن المشكلة تكمن في أنفسنا وليست في عين من يرانا، فعملنا على تحويل سؤال “لماذا؟” إلى “كيف؟”، نسعى معه إلى التخلص من وصمات العار التي تلاحقنا كلما اجتمعنا مع الغير أو انفردنا بأنفسنا.

 

وأخذت دائرة الأيام في المسير، لتتغير الدنيا ونفاجأ بأن ما كنا نعتبره عيبًا هو أصل الجمال ومصدر الفخر والتميز، ففوجئت بكلمات الثناء والمديح للون بشرتي، وأصبح شعر صديقتي محط أنظار من حولها، يريدون التقلد به، وأنف صديقي النحيف تحول إلى نموذج للوسامة، وتغيرت نظرتنا لأنفسنا لأن هناك أعين أخرى قد أصبحت ترانا أخرجتنا من تلك الأسطورة الوهمية التي حبسونا بداخلها، مجبرينا على اعتنقاها وتصديقها، حتى نرفض أي تغيير أو تمرد ونريد دائمًا أنفسنا بأعينهم المتنمرة.

 

عرفنا بعدها أن ما عشناه في الصغر لم يكن سوى حياة مستمرة من التنمر، مارسها علينا أشخاص قد عانوا هم الآخرون من ذلك الداء، فأقسموا -دون وعي أو إدراك- على نقله إلينا، فنسقط معهم في تلك الدائرة التي لا تتوقف، تبتلع كل يوم ضحايا جددًا فتحول نفوسهم الراضية إلى أخرى مشوهة ناقمة على نفسها والعالم.

 

قد يبدو هينًا في حالة وجود متنمر عابر، ولكن في أغلب الأحيان ستجد من يتنمر بك هو أقرب الدماء إليك، لذا فالحل الوحيد لمواجهته هو أن تثبت قدمك وتحتضن نفسك بقوة وتزيد من حبك لنفسك، مترفعًا عن أي كلمات أو شعور يقلل منها، معتنقًا حقيقة واحدة لا جدال فيها.. أن نظرة من حولك هي انعكاس لهم وليس لك.

 

في أغلب الأحيان ستجد من يتنمر بك هو أقرب الدماء إليك

 

المقالة السابقةيُتم الصديق
المقالة القادمةعندما لم تعد الرياضيات كابوسًا يطاردني
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا