فن اللكاعة

2311

التلكؤ.. أو بالبلدي اللكاعة.. كنز لا يعرف قدره سوى القليل من “البرنسات” في هذا العالم، الذي وقع في فخ السرعة ولم يخرج من ذلك الفخ، ولن يخرج منه على الأرجح.

 

فالسرعة أصبحت أمرًا محمودًا في حد ذاتها، بغض النظر عن الغرض من ورائها، أو نتائجها حتى. ولم يعد هناك مجال للاستمتاع بالعمل نفسه، أي عمل، بدون الرغبة في القفز نحو فكرة إنجازه والانتهاء منه وعمل علامة “تم” عليه في قائمة الأعمال المطلوب القيام بها.

 

فالحكمة الأشهر الآن هي “لا تتوقف عندما تتعب.. بل توقف فقط عند إنجاز العمل”.

الإنجاز.. التفوق.. النجاح.. كلها مفاهيم مهمة في حد ذاتها، لكنها أصبحت over rated، أو تنال أكبر من أهميتها الحقيقية.

 

والمتلكئون فقط هم من يستمتعون بمذاق الحياة، فهل يستوي الذي يسير في الشارع المزدحم مسرعًا كي يلحق بعمله، فلا يكاد يتبين ملامح الشارع حتى، بذلك الذي يسير وهو يتلفت حوله لينظر للبشر والمحال، ويستمتع برائحة القهوة الآتية من المقهى الصغير على الناصية؟

 

كانت صديقتي الأكبر سنًا “تفرسني” دائمًا بـ”لكاعتها” المعهودة، فأي مشوار يشاء القدر أن يجمعنا معًا لأدائه، لا تتردد هي في أن تتأخر في الحضور، وحجتها الدائمة التي لا تتغير هي “كنت بجيب شوكولاتة وحاجات حلوة عشان الطريق”. وبقدر ما كنت أغضب وقتها ولسان حالي يقول “محبكش يعني.. خلينا ننجز ونخلص اللي ورانا”، لكنني قد أدركت مع الوقت فلسفتها في الحياة، التي تتلخص في ذلك الموقف البسيط، فالمشوار بأي حال سيتم والمطلوب عمله سيُنجَز، فلماذا لا نحيطه ببعض الحلوى والتسالي؟!

 

أدركت تلك الحكمة لكن بعد سنوات طويلة من العيش في دائرة السرعة والرغبة في الإنجاز، بغير اكتراث بأهمية أن يحيط بذلك الإنجاز لحظات جميلة. ولا أقول إنني اتَّبعت هذه الحكمة بحذافيرها وعلى طول الخط، لأنني أنساها أحيانًا ولا أجدها مناسبة للوقت الذي نعيش به في أحيان أخرى.

 

وتنتهي بي الحال كثيرًا وأنا أقف بملابس الخروج مع الأولاد أحضر معهم الحقائب لتمارين النادي، ولا أنسى أن أضع الكتاب الذي أريد تصويره في مكتب التصوير، وملابس سوداء لأنني أريد أن أمر بالمرة على صديقة لم أرها منذ سنوات لكن علمت أن حماتها قد توفيت وفاتني حضور العزاء، فلماذا لا أذهب إليها في طريقي وأمكث معها قليلاً لمواساتها!

كما لا أنسى أن أضع في الحقيبة الكبيرة ذلك الحذاء الذي يحتاج إلى خياطة، لأمرره على الجزمجي، وشاحن الموبايل بالطبع لأنني لا أريد أن أصبح غير متصلة بالآخرين في أي لحظة كي لا يحدث أي خطأ ما.

 

كل همي هو أن أعود لبيتي ليلاً وأكتب علامة “تم” على قائمة المهام، وما أن أنهي قائمة المهمات، حتى أبدأ قائمة جديدة في اليوم التالي، حتى تصبح تلك القائمة أهم من حياتي نفسها.

أتذكر شكلي على باب المنزل ويداي ممتلئتان بالأكياس والحقائب، وأشفق على نفسي، ليس فقط لأنني أحمّل جسدي أكثر مما يتحمل، بل لأنني أحمّل نفسي وروحي أيضًا أعباء كبيرة، فكل تلك الأشياء الصغيرة والمهام السخيفة التي يجب الانتهاء منها لا تقتل وقتي فقط، بل تحتل حيزًا كبيرًا من انتباهي، يرهقني بشكل كئيب، لا يوازي الأهمية والفائدة المرجوَّة من أداء تلك المهام، التي يمكن الاستغناء عنها بسهولة، وتوفير بعض الطاقة للاستمتاع وعمل لا شيء.

 

لكن كيف لي أن أفعل ذلك، وقد أصبح من الحتمي أن يتمتع الإنسان بصفة الأخطبوطية، ولأن الأخطبوط لديه أذرعًا كثيرة ممتدة في كل اتجاه، ولأن ليس للإنسان سوى ذراعين اثنتين، فلكي يصبح الإنسان المسكين أخطبوطًا فإن عليه أن يستخدم ذراعيه في أداء مهمة ما، ثم يسارع للبدء في المهمة التالية، ثم التي تليها ثم التي تليها، وبشكل هيستيري يصبح من خلاله الكائن المسكين بمثابة ترس في آلة.. هل ترون في هذا التشبيه أي مبالغة؟

 

لا ليس به شبهة مبالغة، فأنا أصف شعورًا صادقًا جدًا جربته لفترات طويلة جدًا في حياتي، وأعتقد أنه ما من إنسان يعيش في الزمن الحالي إلا ومر به، خصوصًا النساء المسكينات.

لماذا النساء؟!

بموضوعية شديدة وبلا أدنى تحيز لبنات جنسي، أقول إننا نُعد أكثر ضحايا ظاهرة اللهاث تلك، فالالتزامات المطلوبة منا نحن معشر النساء أصبحت غير محدودة، وأصبحنا نتفاخر أننا “سوبر” أو “أخطبوطيات”.

ويقال لنا إن الله قد خلقنا لنستوعب القيام بعدة أعمال في نفس التوقيت، نرد على الهاتف ونتابع الإناء فوق الموقد ونراجع الدروس لأطفالنا.

ونحن بكل سذاجة و”فتونة” بلعنا الطُّعم ورددنا هذه المقولة مثل الببغاوات، وأصبحت تلك المقولة تثير شعورنا بالفخر والنجاح، لأنها تشير إلى قدرات عقلية وجسدية كبيرة، بينما هي من وجهة نظري قدرات مكتسبة وليست فطرية، فالعلم يأتي بالتعلم وكذلك تلك القدرات، فنحن نكتسبها بالتدريب عليها لأننا مضطرات لذلك وليس لسبب آخر.

 

ولا ينفي ذلك أن الله قد أنعم علينا بالقوة التي أودعها في جميع مخلوقاته، ومن الجميل أن نعظم تلك القوة، ولكن على رأي الست نانسي عجرم بـ”الهداوة الهداوة الهداوة”، فلكل شيء حدود.

 

فتلك الكفاءة والفاعلية في الإنجاز، وبالرغم من نتائجها الباهرة في أداء المهام، لكنها -عن تجربة- تنهكنا وتهلكنا بشكل أسرع، لأننا “بنحرق بنزين كتير” كي نقوم بكل المهام المطلوبة منا، وتلك المهام التي نخلقها لأنفسنا حتى لو لم تكن ضرورية، بحجة أن لدينا وقتًا وصحة، وممكن “نعمل أكتر” و”ليه لأ ما دام قادرين!”.

 

لكننا نستيقظ من نومنا فجأة والحزن يملأ قلوبنا بلا سبب واضح، وننسى أن نمط الحياة الذي نهلك أنفسنا به هو السبب، فإدمان الإنجازات، ولو حتى الصغيرة منها، مثل المواظبة على تمارين الأولاد، وأداء المجاملات الاجتماعية، يجعل طموحنا أكبر في تحقيق المزيد، وحرق المزيد من البنزين لفعل ما هو أكثر وأكثر.

ويصبح حينها اليوم الذي نقضيه في المنزل بدون عمل خطة محكمة لنا ولأولادنا، سببًا في إفراز هرمونات الذنب بداخلنا لدرجة تدفعنا للحزن.

 

عن نفسي، أفعل ذلك رغم إدراكي لخطورته، وأتمنى أن يصبح اليوم 72 ساعة كي أنجز كل الالتزامات المطلوبة، أما لقاء الصديقات مثلاً فأكتفي بلا أدنى حرج أن ألقاهن مرة كل شهر أو شهرين، وكلنا كصديقات نفعل ذلك باختلاف شخصياتنا، فمن هي مهتمة بالعمل، وتلك المكرسة وقتها لأولادها، وكذلك الكسولة، والنشيطة، والمتحفظة والمتحررة.. وكلهن كلهن وأنا معهن، لم نعد نفعل مثلما كانت تفعل جداتنا، لم يعرف جيلنا تمشية العصاري، ولا الجلوس في الشرفة وقت المغربية.

 

كلنا نستخسر ونستكثر على أنفسنا اللقاءات الممتعة، ولا نعتبر الفرح من ضمن أولوياتنا، مع أن الانبساط يعد إنجازًا يجب السعي إليه والاحتفاء به، بل والتخطيط من أجله، وإلغاء بعض الالتزامات الأخرى لإعطائه الأولوية. فببساطة “ما دام الحاجة بتبسطنا ليه منعملهاش كتير؟!”.

 

ويعرف أهمية هذا المبدأ من تعدوا مرحلة الشباب بكل طموحاتها التي ليس لها حدود، مثل صديقتي “اللكعية” الجميلة والحكيمة جدًا.

وبالمناسبة.. فالطموح الجامح أمر جيد، وهو طبع إنساني لولاه لما تطورت البشرية، لكن عيبه الوحيد أنه ينسينا أن نقف ونتأمل ونأخذ نفسنا، ونشعر بالفرح ولو قليلاً.

 

وعندما ننصح أنفسنا أن نهتم بـ”الأهم ثم المهم” فإننا ننتهي بكوننا منهكات للغاية، والعيب لا يكمن في المبدأ ذاته بقدر ما يكمن في تعريفنا للـ”أهم”، فالرياضة ومشاهدة الأفلام ولقاء الصديقات والمشي في الشمس بلكاعة ومتابعة المسلسلات التافهة.. أمور مهمة يجب أن نتعلم أن نتقنها.

وهي مهمة لأنها تشعرنا بالسعادة، وما دام فعلت ذلك فينا فهذا يعني أنها تشبع حاجة أصيلة في أرواحنا تستدعي تغيير جدولنا لوضعها في الاعتبار.

فحياتنا تمر بين سعي وشقاء ولا نتذكر منها سوى الساعات القليلة التي قضيناها في الضحك أو بصحبة من نحب. وتلك الساعات وحدها هي خير معين لنا على عبور الأوقات الصعبة في الحياة.

 

ولذلك فإن فن اللكاعة يعتبر من الفنون المهمة في مواجهتنا للحياة وصعابها، ولذلك لا أستبعد أن أسمع قريبًا عن كورسات متخصصة في تدريسه، ليصبح مثله مثل التنمية البشرية وكورسات الطبخ، ولا أستبعد أن تُقبل على تلك الدروس الكثيرات جدًا ممن لا يتقن ذلك الفن.. وأنا أولهن.

 

 

المقالة السابقةخلاص كلكم عارفين فان جوخ؟!
المقالة القادمةالغرفة الزجاجية بطل “ذا فويس كيدز”
مترجمة ومحررة أخبار بالإذاعة، وكاتبة سيناريو، وعضوة في اتحاد كتاب مصر.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا