عن الشمس الكاسفة والتقدير

477

 

حكاية شخصية

24/12/2014

****

عزيزتي القارئة، سأحكي لكِ حكاية شخصية، في آخرها موعظة، على الطريقة القديمة للمرويات الأخلاقية –أو Moral– فأرجو أن تتحمليني، إذ ربما تعجبكِ الحكاية.

 

خيط 1: كنت أتمشى أنا وصديقتي نبحث عن كروت معايدة، فقالت لي فجأة: “ليه كل الستات شايلين الهمّ؟ ليه كلهم بيبان عليهم أكبر من عمرهم؟ وليه بيرضوا يخلوهم في علاقة لمجرد إنها بتوفر الأمان لكن مفيش تفاهم حقيقي؟”.

 

خيط 2: في تدوينة منشورة على الفيسبوك تحكي فتاة عن ارتباط الزوجة بالفيسبوك: كيف أنها تنهض صباحًا لتقول “صباح الخير” فتردّ كل صديقاتها بأن “صباح القشطة والجمال” بينما تلقي ذات التحية على زوجها فيلوي بوزه ويقول “حضريلي الفطار”. كيف أنها تقع على ركبتيها على السلّم فتكتب ذلك لتجد العشرات يهرعن لتقديم المساعدة وأرقام أطباء العظام الموثوق بهم، بينما تذكر لزوجها الوقعة فيعلّق في برود “ما إنتي زي القردة أهو”. تنهي الفتاة الحديث بقولها إن الفيسبوك، وتحديدًا “التقدير” الذي تشعر به الزوجة من الصديقات هو ما يحافظ على البيت مفتوحًا، ولولاه لانهارت العلاقة منذ زمن.

 

خيط 3: يحكي د. أحمد خالد توفيق في روايته “أسطورتها” عن “ماجي” حبيبة “رفعت” بطل السلسلة، ويقول إنها كانت في تلك اللحظة كشمس كاسفة، تطلب الدفء والرعاية، وتطلبه من رفعت بالذات، فيتساءل الأخير في حيرة كيف يمنحها ما اعتادت على تقديمه؟ لكنه في النهاية وصل لحل واستطاع حمايتها من القاتل المتسلسل الذي كان يسعى وراء أحبائها.

 

الحكاية: مرّ عليّ أسبوع صعب جدًا، كرهت فيه النهوض من الفراش وكنت أنيّم نفسي رغمًا عني فأفيق متعبة زيادة ومرهقة جدًا. توقفت عن الطبخ وعن الكتابة والقراءة والخروج والكلام وأصبحت متجهمة على الدوام، لم يعد شيء يبهجني وكنت أفكر في احتمالات مجرد الإصابة أو القتل الفوري لو ألقيت بنفسي من نافذة الدور الرابع. حسنًا، بدت الأمور بهذا السوء وأكثر.

 

طلبت جلسة مستعجلة مع طبيبي النفسي، ولما ذهبت إليه ترددت في الكلام، وتهتهت في النطق، لم يكن عندي ثقة بالنفس كافية لأخرج كلامًا من فمي، اعتقدت أن كل ما أقوله وأشعر به بلا قيمة، وأني من الأفضل لو خرست للأبد. لماذا أضيع وقته لمجرد أني “متضايقة” قليلاً وتوقفت عن ممارسة أدواري ووظائفي، بل حتى توقفت عن الاستحمام وتمشيط شعري وأكثرت من المنوّم؟ لكنه شجعني، بهدوء وصوت منخفض تتغيّر نبرته تبعًا لما أذكر من كلمات ووقائع، فيشعرني بالمتابعة والاهتمام.

 

بعدما حكيت له شذرات مما “حدث” أثناء الأسبوعين الماضيين، قال لي: هذا نتيجة عدم التقدير. لا يتلخص الأمر في قول “شكرًا” فحسب، وإن كان إخوتي يقولونها لي أحيانًا، بل يمتد الأمر للقيام بواجباتهم المنزلية ومساعدتي فيما أطلب. يقول أيضًا إنه نتيجة لاتخاذي جهودي كأمر مسلّم به: طبخت أم لا، لا مشكلة، نشرت الغسيل أم تركته معلقًا على حبل التصفية، لا اهتمام حقيقي، خرجت اليوم فتركت جبلاً من الأطباق التي أكلوا فيها، لا رد فعلٍ يُتخذّ. هذا للأسف ما راكم بداخلي شعورًا حقيقيًا بأني بلا قيمة.

 

أنظر لأمهات كثيرات فأجدهنّ يقللن للغاية من قيمة أنفسهن، ومن تخرج عن هذه المنظومة السامّة يقلن عليها “شايفة نفسها”. انمحى التقدير والعناية والاهتمام من داخل البيت فترسبّ في نفسيتهن أنهن “ولا حاجة”، وأنهن مهما فعلن لن “يعجب” الحال أزواجهن والأولاد. لي قريبة أرفع من عود الكبريت رغم طبخها الممتاز، قاربت على الخمسين وقد هجرت من زمن العطور والكحل والألوان على جفون العينين والخدود، توقفت عن الذهاب لمصففة الشعر إلا في المناسبات رغم تيسر حالها ماديًا، لو مدحت ما تبقى لها من جمال ذابل في وجهها الذي شُد جلده تمامًا على العظم ستقول إنك “بتقول كده وكده”، لن تصدقك. اعتادت على اتخاذها جهودها ووجودها بالمنزل أمرًا مسلمًّا به ولا تقدير أو كلمة شكر أو حتى وردة بين كل حين وآخر، فغلُظ قلبها وصارت الكلمات الحلوة في حقها كسهام تنغزها فتفضل ألا تصدقها.

 

يقول طبيبي إن أركان العلاقة الناجحة الأربعة هي: “الحب والثقة والتواصل الجيد والحدود”، وركّز كثيرًا على “الحدود”. يقول إنه من القسوة معاملة شخص على أنه موجود للأبد مهما فعلت له من أذى، وأنه لن يتركك. يقول أيضًا إننا علينا تحديد ما نريده وما لا نريد، ما نحب وما لا نفعل. يجب أن نكون على قدر من الحزم وألا يتخذنا الطرف الآخر باستخفاف وإلا فهو غير جدير بصحبتنا. لا ينبغي يا سيدتي أن تظلي في زواج لا يقدرك فيه الزوج أو يحترم جهودك لمجرد أن بينكما أطفال، لأن الأذى النفسي الناتج عن عدم التقدير والمعاملة السيئة وانعكاس هذا الأثر على أطفالك مؤلم جدًا لهم، وستنتجين دون وعي منكِ بناتًا لا يثقن بأنفسهن ويعتقدن أنهن يجب أن يخرسن ولا يقلن مشاعرهن، وأن العالم ليس بحاجة لجهودهن أو وجودهن حتى.

 

للأسف من نتائج التربية الخاطئة في مجتمعات كثيرة جدًا أن يكون للولد الرفاهية واللعب بالخارج أو الجلوس بالمقهى يحتسي كوبًا وراء آخر، بينما للبنات المطبخ والإصابة بجفاف اليدين وارتخاء الأربطة وآلام الظهر نتيجة لغسيل الأطباق ومسح الأرضيات وجمع الجوارب وراء الذكور لأنهم يرمونها في كل مكان كيفما اتفق. لا يا سيدتي، لا تخرجي للعالم كيانًا عديم المسؤولية لا يقوم بـ”واجبه” من الأعمال المنزلية، فهو فعلاً ما “يجب” عليه وليس “مساعدة” يقوم بها متكرمًا وينتظر الشكر. الشكر حقه في كل الأحوال لكن عندما “يستحقه”، لا أن يُعطى له وهو يمنّ علينا إن قام بغسل الأطباق أو انتبه للصغير أو ذاكر له.

 

في النهاية.. تذكري أنه “سوا” نستطيع تحقيق بيئة آمنة ومليئة بالتقدير والحب والالتزام، تحفها المسؤولية والشعور بالحب والاهتمام النابعين من مهام عمل متوازنة ومتساوية، وتقدير وشكر، والتفات للرغبات وإن كانت بسيطة.

انتهت مرويتي الأخلاقية.. شكرًا.

المقالة السابقةالديك الرومي المشوي للحفلات
المقالة القادمةسُكَّر مُر طعم البُكا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا