عن اختبار الفقد

2142

تحكى روايةٌ صينيةٌ عن امرأةٍ عاشت في سعادةٍ ورضىً مع ابنها الوحيدِ، حتى اختطفته براثنُ الموتِ، ومن شدة الفجيعة ذهبت لحكيم القرية تسأله أي وصفة مهما كانت صعوبتها لتستعيد من رحل، طلبَ منها الحكيمُ أن تمرَّ بإناءٍ على بيوتِ القريةِ وتسألهم حبةَ خردلٍ من كل منزلٍ لم يعرفِ الحزن، وعندما تعود بالإناء ممتلئًا سيعطيها الوصفة لتستعيدَ ابنها الراحل، ذهبت المرأةُ وظلت أيامًا تمر على البيوتِ ولا تحصلُ سوى على قصصٍ مليئةٍ بالفقدِ وخسارةِ الأقربين، وعادت بالإناء خاوِيًا، لكنها أدركت مقصدَ الحكيمِ، ولاقت في نفسها الكثير من التعزية.

نعم.. تنطوي أعمارُنا على أوقاتٍ عصيبةٍ ومريرةٍ، نمر بها على مضضٍ وفي ارتباك تام، ويتشاركها الإنسانُ عبر العالم، وعبر الأزمان والعصور، إنها بإيجازٍ شديدٍ تجربة “الفقد والخسارة”.

والفقدُ قد يكون بالموتِ وهو فقدانٌ أبديٌّ، أو بخسارةِ شخصٍ ما عن طريق الانفصالِ أو قطع العلاقاتِ معه، وأحيانًا يكونُ الفقدُ بخسارةِ وظيفةٍ، أو قدرةٍ معينةٍ بالمرض مثلاً، أو حتى خسارة مادية.

والمُتتبعُ لصورِ وأنماطِ الفقد يصلُ لنتائجَ، منها: أن بعض أنواع الفقد تحظى أكثر من غيرها بقبول وتفهم الآخرين،؛ فمثلاً خسارة شخصٍ ما بالوفاة تجعلنا أكثر تعاطفًا مع صاحبِ الفجيعةِ، ويختلف الوضعُ تمامًا في حالةِ شخصٍ فقدَ وظيفته، رغم أننا لا ندرك أثر هذا الفقد على نفسيته وحياته، والحقيقةُ أن الحزنَ ليس قالبًا أو “كلاشيه” نحدد من خلاله إن كان هذا الأمر يستحق الألم أو لا يستحق، ذلك أن الجهاز العصبي للإنسان يستقبلُ الصدمةَ ويعبرُ عن آثارها حسب عوامل عدة، كالتنشئة والبيئة التي درج فيها المرء، وكذلك صحته البدنية والنفسية في الوقت الذى أصابته فيه الخسارة.

وإذا بدأنا الحديث بفقدان عزيز بالموت، فالحزنُ الناجمُ عن الفجيعة يبدو كمواجهةِ عاصفةٍ لا نعرف ما تحمله.
وحسب “كبلر”* فإنَّ الاضطرابَ والحزنَ يتشكل مرورًا بمراحل خمس، بيانها كالتالي:

1- الإنكار:
والذي يأتي في البدايةِ كمحاولةٍ من الجهاز العصبي لتجنب مواجهة الصدمة وجهًا لوجه، فنلجأ للمراوغة هروبًا من المواجهة، وللتشويش على الواقع بدلاً من التواصلِ والتعاملِ معه.

2- الغضب:
ينمو الغضبُ تلقائيًا كحائط سدٍ، أو كوسيلةٍ للدفاعِ عن ثباتنا أمام الفقدِ، فنبدأ وقتها في إلقاء اللوم والغضب على شخصٍ أو شيءٍ ما، ومع قوةِ وعنف المشاعر نجدُ أنفسنا نتساءل “لماذا أنا؟” “كيف يحدث هذا؟”.
وقد يشملُ هذا الغضبُ الشخصَ المُتَوفَّى فنلقي اللومَ عليه في تركنا.

اقرئي أيضًا: بعد رحيل الأحباب: كيف شكَّلتني تجارب الفقد

3- المساومة:
في هذه المرحلةِ الفاصلةِ يحاولُ الإنسانُ عبثًا أن يتمسكَ بالأمل، وكأنه يمكننا استعادةَ من فقدناهم مقابل أي تنازل. “سأخدم الفقراء وأصلي ودعني أراه مرة أخرى”.
إننا نساومُ الموتَ في موتانا، تمامًا كمحاولة غريقٍ موقِنٍ بالهلاك في التشبثِ بحطامِ الحياةِ، والحقيقةُ أن الموتَ لا يُساوَمُ والموتى لا يعودون أحياءً أبدًا مهما بذلنا من ثمن.

4- الاكتئاب:
هنا تتجلى مرحلة الإحباط، ويفقدُ الشخصُ اهتمامَه بالآخرين، رافعًا رايةَ اللا جدوى، لا جدوى للعمل أو التواصل الاجتماعي، لا جدوى للحياة إذا كان الموتُ دائمًا في انتظارِ الأحياء، وهكذا ينظر المكتئبُ للأشياء نظرةً عبثيةً فكل شيء بلا معنى، وقد تبدو أخطرُ مراحل الحزن وأشدها إيلامًا لأنها تقف بصاحبها على حافةِ بين الموتِ والحياة، لكن في الحقيقة هي مرحلة مبشرة لأنها تشير إلى إدراك الفاقد للحادثة، وهنا يكون قد قطع شوطًا كبيرًا يعده للتعافي.

5- القبول:
أو ما نسميه “الرضا بالأمر الواقع”، حينها نبدأ بالتصالح مع الحدث، ونبدأ في وضع خطط جديدة للحياة مع النظر للألم على أنه ذكرى.
في هذه المرحلة نستطيع أن نحصل على بعضِ الهدوء، ونستعيد قدرًا كبيرًا من اتزاننا النفسي ونكتسب الحكمة فتنضج أرواحنا وعقولنا عبر الألم.
وليس بالضرورة أن يمر الجميع بكل هذه المراحل، أو أن نمر بها بنفس الترتيب، فمشاعر الحزن والأسى مشاعر فريدة في كل مرة ومع كل شخص.

أخيرًا يبقى أن نعرف أنه في محاولاتنا المجهدة للتغلب على تجربة التفجع والفقد، يصبح شيئًا طبيعيًا أن نستشعر الجزع، وأن نعرف أن هذه المشاعر التي تعتصر قلوبنا في الأيام الأولى للفقد لا بد ستخف بمرور الوقت، وبالمساعدة والتعزية التي هي حاجة أساسية من الاحتياجات النفسية، فلا يجب أن نستشعرالذنب أو الخجل من التعبير عنها.

سيتطلب الأمر وقتًا لنتعافى ونتكيف على الوضع الجديد، ولكن ينبغي علينا احترام مشاعر القلق واليأس والارتباك الذي نمر به. ولا بد أن نكون صبورين حتى نتخطى هاويس المشاعر التي تجتاحنا، ونؤمن بيقين أن هذه المشاعر ليست عارًا علينا إخفاؤه أو ذنبًا اقترفناه ونخاف أن نُنْتَقدَ لأجله.

هل تعلم أن الأطفال أيضًا على حداثة سنهم يدركون الفقد ويستشعرون الألم؟
سنتحدث بالتفصيل في المقال القادم عن احتياجات الطفل وقت الفقد.

*كبلر: اسم النموذج الذي وضعته عالمة النفس السويدية إليزبث كوبلر روس لمراحل الحزن.

المقالة السابقةالخوف بطل قصصنا جميعًا
المقالة القادمةاعملي ريفيو للسنة اللي فاتت

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا