عزوا بعض

932

مش ممكن هنسى الرد اللي تلقيته من إحدى السيدات، لما غصبت على نفسي أتصل أعزيها “البقاء لله يا طنط”، فكان الرد القاتل “يلا حصل خير.. كل سنة وإنتي طيبة!”، وقتها عرفت إني مش لوحدي اللي عندها مشكلة كبيرة جدًا في مسألة التعزية خلال حالات الوفاة والأحداث المفجعة لأصدقاء أو أقارب، وإني مش لوحدي اللي مبعرفش أقول إيه أو أرد إزاي، مش أنا بس اللي بتلبخ وبعك الدنيا وممكن أقول حاجة إيجابية في موقف سلبي والعكس، لذلك كنت باخدها من قصيرها وآخد نفسي وأنسحب وأبعد، وأظهر من جديد بعد مدة كأن شيئًا لم يكن.

 

الموضوع مكانش وقتها ندالة على قد ما كان إحراج شديد وقناعة إن الشخص عادة مبيبقاش ناقص، يعني عنده حالة وفاة أو مصيبة لسة حاصلة وتفاصيل ما يعلم بيها إلا ربنا، هيبقى فاضي يمسك تليفون ويفضل يرد على الناس ويشرح ويهاتي ويرد؟ ثم إيه الفايدة إني أقول “البقاء لله” فيجيني الرد اللي هو تقريبًا “عظّم الله أجركم”؟ كنت أسأل نفسي أيوة فين بقى وجه الاستفادة اللي صاحب المصيبة استفادها بخلاف الثواب، اللي ممكن ياخده برضو بقراءة آيات أو أذكار.

 

فضلت وقت طويل معروفة في محيطي إني شخصية ندلة، متعرفش في الذوقيات ولا بتجامل حد في مصيبة، حتى بعد ظهور فيسبوك، بدأت أتحاشى البوستات الحزينة واللي خاصة بالرثاء، وسط آلاف الردود مكنتش بشوف إن ردي هيبقاله معنى أو أثر، ده غير إني كنت بنتقد فكرة إن حد يكتب على صفحته الشخصية حاجة حزينة تخصه، وكنت بعتبرها تسول للاهتمام، بل إن الموضوع وصل بيّ إني أتهم أصحاب المنشورات المماثلة بإنهم بتوع شو وعاوزين تعاطف وخلاص.

 

ربنا أراد يعلمني درس عملي على معنى التعزية وقيمتها، لما ابني دخل غرفة العمليات مرتين، أول مرة قبل أكتر من سنة، عمل أول عملية، كنت وقتها وسط كل القلق والرعب محتاجة أحس إن كل الدنيا حواليا، محتاجة طبطبة كتير، ودعوات وتعزية إنه هيكون بخير وإنها مسألة وقت، وإن أطفال كتير عملتها. صحيح كل ده كنت عارفاه كويس لكن في اللحظة دي كنت بفرح بكل مكالمة تجيلي تطمن على ابني، وكل نبرة قلق وحب حسيت بيها من الصحاب والأهل.

 

في العملية التانية دخلت صفحتي على فيسبوك أثناء وجوده في العمليات، وطلبت من الأصدقاء دعوة له بظهر الغيب إن ربنا يعافيه ويسلمه ليّ، وفعلاً انهالت عليّ الدعوات الطيبة، وخطر على بالي الشخصية اللي هتشوف البوست وتقول في سرها “بصي المتسولة.. عاوزة تستدر عطف الناس وكلامهم، هي في إيه ولا في إيه؟!”، أشفقت عليها جدًا، وفعلاً بعدها بيوم لاقيت تلقيح من الناس دي عن الناس اللي بيبقوا وسط مصيبة وبيدخلوا على فيسبوك ينشروا منشورات ويكلموا الناس.

 

التجربة خلتني أتأمل في تفاصيل كتير جدًا، وتقاليد كنت بشوفها غريبة، زي فكرة إن الناس اللي عندهم عزاء يعملوا غداء للناس اللي جايين لهم يعزوهم من سفر، قبلها كنت بقول “هم في إيه ولا في إيه؟!”، زي فكرة القهوة اللي بتتقدم، وحالة الانهماك في عمايلها وتقديمها، زي فكرة الاجتماع بلون واحد، زي فكرة اللمة في المستشفيات والقعدة على الأرض قدام غرفة العمليات، الحضن اللي بناخده ويحسسنا إننا مش لوحدنا، والدعوة اللي بتتكتب في ثواني على صفحة أو تتقال في التليفون بس مفعولها زي السحر، صحيح مبتغيرش الحدث ولا بتنفي الواقع ولا بتقضي على الألم، بس بتكون مسكن ناجح لمواقف كتير بيكون أقصى احتياج لينا خلالها “كلمة طيبة وحضن حقيقي”.

 

المقالة السابقةإنهم يدينون البريك.. ويبررون الزواج الثاني
المقالة القادمةوعادت روحي تتنفس مع “نون” فكيف تحجبونها؟!
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا