عدوي اللدود

1093

 

بقلم/ كارمينا نادي أديب

 

أتذكر أنني قرأت يومًا وأنا في التاسعة عشر من عمري وربما أصغر، أن جزء المخ المسؤول عن اتخاذ القرارات الصائبة يستمر في تطوره حتى سن الرابعة والعشرين. غضبت بعد معرفة هذه المعلومة، فقبل أن أصل لهذه السن واجهت اختيارات عدة كاختيار أصدقائي، وكان أهم الاختيارات هو اختيار الالتحاق بكلية ما، فبأي منطق أختار ما سيحدد مستقبلي وأنا لست بعد أملك المهارات الكاملة لذلك؟! ليس فقط بسبب عدم اكتمال عقلي فسيولوجياً، ولكن هناك أيضًا عوامل أخرى غير كاملة، كنضوجي النفسي الذي كنت أخطو فيه خطواتي الأولى، وخبرتي القليلة بالحياة.

 

كنت أنتظر هذه السن بفارغ الصبر، لأصبح سيدة قراري على أكمل وجه، وحدث الأمر. أتممت الرابعة والعشرين، وواجهت قرارات أكبر وأكثر تعقيدًا، قرار الارتباط واختيار شريك حياتي، قرارات متعلقة بأماكن العمل، قرارات اختيار تخصص معين وبدء دراسات ما بعد التخرج، وغيرها من القرارات طويلة الأمد. كانت صدمتي أن حتى عند بلوغي هذه السن، فمشكلتي لم تكن فقط في فص سخيف من المخ لم يكتمل نموه بعد، أو في نضوجي النفسي أو خبرتي بالحياة، إنما المشكلة الأكبر كانت في عدو لدود يقبع داخلي، ومع ذلك ففي أحيان كثيرة يكون أكبر مني، ويكاد يبتلعني.. إنه الخوف.

 

وجدت أنني أخاف مواجهة نتائج سيئة لاختياراتي، أخاف الغد وما يخبئه لي، أخاف الفشل، الترك، فقدان أحبائي أو حتى إصابتهم بسوء. مرت عليَّ أوقات شعرت فيها كما لو أني مُكبَّلة بقيود الخوف عاجزة عن أن أخطو خطوة واحدة للأمام في أي طريق. والعجيب أنه من الممكن أن يهيمن الخوف عليَّ إلى الدرجة التي تجعلني حتى أخاف أن أصرخ وأعلي صوتي وأبوح بما يخيفني، فأنا أخاف ألا تستقبل شكواي الآذان الصحيحة، أخاف ألا أجد الاحتواء والأمان اللذين يزيحان عني خوفي ولو قليلاً.

 

على الناس أن يخافوا من الصامتين، فعلى الأغلب تدور داخلهم معارك الله وحده يعلم ببشاعتها وضراوة الخصوم فيها. أتعجب جدًا أن العدو الأكبر للإنسان هو نفسه، فالخوف ينبع من أفكاره هو نفسه. إنه يدمر نفسه ذاتيًا كما يحدث في أمراض المناعة. يا له من أمر عجيب مثير للشفقة! يعجبني هذا الاقتباس من الكاتب والشاعر فاروق جويدة، يقول فيه:

لماذا نفكر دائمًا في نهايات الأشياء رغم أننا نعيش بدايتها؟

هل لأننا شعوب تعشق أحزانها

أم لأننا من كثرة ما اعتدنا على الخوف

أصبحنا نخاف على كل شيء

ومن أي شيء؟!

حتى أوقات سعادتنا نخشى عليها من النهاية.

 

سُئلت يومًا هل ندمتِ على قرارات اتخذتِها قبلاً، سأكون كاذبة لو قلت لم أندم، لكنني اكتشفت أن لكل شيء جانب إيجابي حتى لو صعب عليَّ رؤيته في ذلك الوقت، كل خطأ ارتكبته كان يمثل درسًا تعلمته، وبعض الدروس أصعب من غيرها. كل علاقة خضت فيها كان لها تأثير في تشكيل شخصيتي وصقل كياني وإثراء خبرتي بالحياة.

 

ربما كان الخوف يجنبنا بعض الأخطاء، لكنه على الجانب الآخر يحرمنا متعة الخوض في تجارب ومغامرات ربما كنا بحاجة إليها لننضج وتتقولب شخصياتنا.

 

من المشجع وجود بعض الأشخاص الأكبر سنًا مني ووقوفهم على منصة الفائزين في ميدان الحياة. سمعتهم يتحدثون عن مخاوفهم عندما كانوا بمثل عمري، وكيف أنهم تغلبوا عليها. اتفقَ معظمهم أن لكل مرحلة عمرية تحدياتها ومخاوفها، لكن ليس الحل أبدًا في اعتزال المعركة، فالهروب دائمًا هو الحل الأسهل، لكن الفوز في معركة الحياة للشجعان، الذين قرروا عدم وضع مخاوفهم جانبًا، لكن اقتحامها. الذين عزموا أن يثبتوا لأنفسهم وللآخرين أنهم أكبر مما يخيفهم. أنهم يقبلون التحدي والتقدم نحو المجهول بقلوب تسلحت بالإيمان بالله واستمدت القوة منه. قلوب توكلت على الله بثقة أن الذي أوصلهم لهذه النقطة من الطريق سيكمله معهم.

 

عزيزي.. لنشجع بعضنا بعضًا، ولنعطِ دفعة لمن تملَّك منهم الخوف وحبسهم في غرف ضيقة، فالحياة على اتساعها بانتظارهم لاستكشافها والخوض في معاركها.

من يعرف، ربما وقفت أنا أيضًا على منصة الفائزين يومًا ما آخذ بيد من اعتراهم الخوف وأبث فيهم أملاً في الغد الأفضل بإذن الله.

سأظل أحارب عدوي ما دام في العمر بقية، فمثلي لا ترضى بنصف حياة.. من أجمل ما قال جبران خليل جبران بهذا الصدد:

 

“لا تعش نصف حياة، ولا تمت نصف موت، لا تختر نصف حل، ولا تقف في منتصف الحقيقة، لا تحلم نصف حلم، ولا تتعلق بنصف أمل.. النصف هو لحظة عجزك وأنت لست بعاجز، لأنك لست نصف إنسان. أنت إنسان.. وُجِدت كي تعيش الحياة، وليس كي تعيش نصف حياة”.

عدو لدود يقبع داخلي وفي أحيان كثيرة يكون أكبر مني ويبتلعني

 

المقالة السابقةما تفعله بنا الموسيقى
المقالة القادمةمتحرش التجمع يواجه كيفن سبيسي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا