طعم البيوت.. خراب

549

جلست ووضعت أمامى واحدة من تلك الأوراق الصفراء الصغيرة ذاتية اللصق وتأملت المكتوب فيها، كنت قد دونت عليها جملة حملة “نون” الجديدة “الست الخطر”.. مرارًا وتكرارًا أنظر إليها عندما أعبر أمامها كلما أتيحت لي الفرصة مُحاولة اقتناص فكرة أو جملة أو مشهد ما يخترق ذهني المغلق بأمر من الأيام الساكنة التي أعيشها حاليًا، رغم ذلك لم أفلح في فك الحصار المفروض على عقلي الذي أعرف جيدًا أنه لا يفكر إلا في أمر واحد أو حدث واحد جاء لحياتي بأخباره وحكاياته كهبوب نسمة صغيرة تنذر بعاصفة سيئة الطباع.

حتى عندما جلست أمام الوريقة الصفراء أحثها على البوح بأفكار أخرى أو أحداث أخرى لم أجد منها سوى ذات الحدث وذات الرؤية للـ”الست الخطر”.

 

في الحدث الصغير الذي بت أستمع إلى أخباره مؤخرًا بكثرة تعرفت على نوعين من النساء، قد أطلق عليهما “ست خطر”.

إحداهما جاءت فهدمت ما كان في الأصل مهدمٍ.. ظهرت في حياة شخص ما لتؤكد له أن ما في يده غير مثالي وغير ناضج وغير باقٍ، فانذهل بها تاركًا أخرى لديها من النواقص ما جعله لا يفكر مرتين في الرحيل عنها.

 

هي التي أكدت له أن الاحتواء محبة وأن الابتسامة سعادة وأن طعم البيت راحة، فذهب خلفها غير عابئ بمن في منزله.. تلك التي يطلقون عليها زوجته، تصرخ في طفلته وتصرخ فيه كلما قابلته وتصرخ في العالم الذي ربطها به يومًا.

هي التي سحرته بعقلها المتزن وحنانها الفائق وجعلته يعقد المقارنات بينها وبين زوجته وكانت النتيجة لصالحها، فالمفقود كان بداخلها.. والذي ضاع منه عثر عليه فيها، فزلزلت قناعته برباطٍ تخيل أنه معقود حوله حتى الشيب.

 

هي التي قبلت بزواج مخفي وبمنزل متواضع وحب مشروط وحياة مختلسة، وارتضت بنصف رجل من أجل ابتسامته ومن أجل سعادته، أو هكذا أقنعت نفسها.

هي التي قبلت الاستماع لتوسلات طفلة تطلب من والدها البقاء دومًا، فهي تفتقده ثلاثة أيام أسبوعيًا، فوالدها ليس هناك ليطبع القبلات على خدودها وتنتظره على موائد الطعام الباردة من دونه ولا يأتي.

 

هي التي عرفت أنها حتمًا أفضل من أخرى في تلك الحياة.. وما من شيء يرضي امرأة إلا معرفتها أنها تفوقت على أخرى.. ما من شيء يرضي امرأة إلا معرفتها أنها الأفضل في عين رجل.

هي من جعلت قلب أخرى يتآكل من الغيرة والحقد ودموعها تبلل سنوات من زواج واهٍ فتغرقها.. وأفكارها تتجه نحو مستقبل بات مجهولاً لها ولطفلتها.

 

أما الأخرى فهي زوجة على علاقة وطيدة مع النكد وكأنها تهواه، لا تعرف سوى صوت عالٍ وصراخ مستمر وعنف غير مبرر مع الطفلة الصغيرة، لها مع الشك علاقة أوطد من علاقتها بالنكد، فأحالت الحياة بينها وبين زوجها جحميًا لا يهدأ.

لم تعطه حبلاً من الثقة تضمن به راحة بالهما معًا، وما كان منها سوى إلصاق نفسها به في كل نزهة أو مشوار له مع أصدقائه أو عائلته.. منعت عنه ذلك المتنفس الذي يجعله يشتاق لامرأته وبيته.. كانت دومًا هناك تحاصره بالمكالمات المتصلة والأسئلة المتلاحقة عن مكان وجوده إذا جاءته ضربة حظ ولم تكن معه.

 

هي زوجة جعلت لمنزلها عمودًا واحدًا أقامت عليه كل أحلامها ومستقبلها، لم تفتح لنفسها نوافذ أخرى ترى بها العالم.. لم تشيّد عمدانًا أخرى تقيم عليها حياة تستحق أن تُعاش، حصرت رؤيتها في رجل خنقت عليه بكل وثائقها حتى أفلت وهرب.

كانت تستقبله بمنزل مُهمل في نظافته وبطفلة غير معتنى بتربيتها وبطعام غير مطهو يُطمئن به المعدة الخاوية بعد يوم عمل شاق، والكثير من الكلمات الجارحة التي حلت محل القُبل الدافئة والأحضان الواسعة.

 

هكذا كانت خطرًا على نفسها قبل كل شيء، لم تعد براحًا وسكنًا.. لم تنجح في أن تكون زوجة فخورة بامتداد علاقتها مع زوجها بحب وعشرة تحكي عن الذكريات المُحبة لأحفاد قد تراهم يومًا أمام عينيها،

لم تبحث عما تحبه حقًا لتفعله لنفسها وليس لأحد آخر. لم تحدد وجهة تسير فيها تتوازن من خلالها الحياة التي تتمنها.. كانت أفكارها خرابًا وحبها هدم.

 

هكذا جلست لأرى من عيون تلك الحياة الملخصة في الأسطر السابقة أن “الست الخطر” ليست دومًا جميلة متألقة تعرف كيف تأكل قلوب الرجال وعقولهم، ليست دومًا لعوبًا طروب ذات أعين تذل الرقاب.

 

“الست الخطر” قد تكون مسالمة سكينة الطابع فقط تريد أن تعيش في كنف رجل تحتويه ويحتويها حتى لو على حساب منزل آخر وكَسرة امرأة أخرى ونفسية طفلة ستدرك ذات يوم ماذا تعنى كلمة “ضُرة” وستسأل عن إخوة لها لم يأتوا من ذات الأم.

 

“الست الخطر” هي التي نسيت أنها في الأصل حضن البيت وسلامه، وإن دامت ابتسامتها بخير دام كل شيء حولها بخير.. هي التي ذهب عن بالها أن الحياة لا تعني رجلاً فقط، وأن هناك دروبًا أخرى لتسلكها تستطيع من خلالها أن تحافظ على سلامها النفسي وسلامة منزل هو في ذاته حياة.

 

 

المقالة السابقةامرأة أرادت أن تحدث فرقًا
المقالة القادمةعالم السلطات.. الجزء الثالث

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا