طرقات الله الرحبة جدًا

498

(1)

“أحب الصالحين ولست منهم”، قصيدة للإمام الشافعي، ظهرت فجأة على مواقع التواصل الاجتماعي، ليتداولها الكثيرون تعبيرًا عن تقصيرهم وحبهم للصالحين، ورغبتهم في أن يسيروا في ركابهم، علهم ينالوا بهم شفاعة الرحمن.

 

فكرت في معنى هذه الجملة كثيرًا، لكني لم أصل بها أو من خلالها إلى شيء، فأنا لا أحب الصالحين، فما إصلاحهم إلا لأنفسهم، لكني دائمًا أقع في غرام الخطّائين التوابين، نعم، أولئك الذين يخطئون ويرتكبون المعاصي، ثم يعودون إلى رحاب الرحمن، طالبين العفو والمغفرة، واقفين على أبوابه ليل نهار، مهما بلغ حجم أخطائهم، هم دائمًا يعودون، ولا يقنطون من رحمة الله، مهما طال بهم الأمد وامتدت بهم الذنوب.

 

أرى نفسي دائمًا فيهم، أحس وجلهم وخوفهم، أدعو بقلبي مثلهم، أتمنى معهم أن يقبلنا الله ولا يرد كفوفنا المشروعة إليه الطالبة للرضا والرضوان.

للمخطئين نشوة في الطاعة، لا يتذوقها إلا الذي ذاق المعاصي، يضعني أمامها “عبد الرحيم كمال” في كل عام يقرر أن يكتب فيه مسلسلاً للفخراني، يجعلها تتسلل إلى قلبي، وتنفذ إلى روحي مباشرةً، يسوقني بها إلى أغوار نفسي المُخطئة، لتتطهر من إثمها على باب الرحمن.

 

(2)

لم أشعر بالسلام النفسي في حياتي مثلما شعرت حين شاهدت مسلسل “الخواجة عبد القادر” لأول مرة، ذلك الرجل الذي ارتحل من لندن تيهًا في الأرض بحثًا عن الله، فوجده في المحبة والتوبة والصدق، ورغم حبي الشديد لكل جزء في المسلسل، لكن “شهاوية” كانت أكثر من ملك على لبي.

 

“شهاوية” بائعة هوى تعيش في عشة صغيرة على أطراف قرية صعيدية، تهوى رجلاً واحدًا فقط، أخا عمدة القرية، لكنها تبيع الهوى لحاجتها للطعام والشراب. تتعرف على الخواجة فيحثها على أن تخطو أول خطوة على طريق الله، فتقول له “طريق ربنا واعر قوي يا خواجة”، لكنه يطمئنها بأن الله يقبل الجميع، ويعين من اختار أن يسير على طريقه، ولو كان ضريرًا متخبطًا من ظلماء نفسه وذنوبها، فتُصر على مقاومة الفحشاء، فنرى كيف يمتحنها الله المرة تلو الأخرى حتى تصدُق توبتها.

 

أوقعني سيناريست المسلسل عبد الرحيم كمال في حب “شهاوية” حد الثمالة، فشعرت بذنبها وعذرتها، وخضت معها تجربة “الخطّاء التوَّاب” خطوة خطوة، حيث تظل بلا عمل ولا مصدر رزق فتضعف، لكنها ما تلبث أن تهرول إلى طرقات الله الرحبة من جديد، وتطرق أبواب الرحمة في غير كلل، إلى أن يأتيها الرجل الذى أحبه قلبها، فتشترط عليه أن يتزوجا، فيتزوجها، وحين يعلم العمدة زواج أخيه من بائعة هوى يقبض عليها ويدفنها حية، لتنتهي حياة “شهاوية” صارخة من القبر “رضيت يا رب.. أنا راضية يا رب.. رضيت بحكمك يا رب”.

 

تضرب “شهاوية” مثلاً في الصبر على قضاء الله والرضا بالمكتوب والتوبة الصادقة، تجعلنا ندرك أن رحمة الله أكثر سعةً وأشد براحًا مما يحصرها فيه البشر وممن يحددون من تشمله، وأن الطريق إلى الله ليس سهلاً كما يظنون، بل “واعر” محفوف بالذلات.

 

(3)

– سبت الدنيا كلها وهربت له.. يقبلني يا قصبي؟ يقبلني؟

– يقبلك.. يقبلك يا حبيبي يقبلك.

– بس خلاص، العمر راح مفضلش فيه غير أيام.

– ولو فاضل دقيقة واحدة.. بيبعدك عشان يقربك، بيرميك عشان يراضيك، الشيطان غواك وربك راضاك، ياقوت البني آدم المتدلع المحبوب اللي يقدر يغلط، ويقدر يقول يا رب تتمحي ذنوب!

 

فعلها عبد الرحيم كمال مجددًا العام الماضي، وجعلني أعشق ياقوت في مسلسل “ونوس”، ذلك الرجل الذي عاهد الشيطان على روحه مقابل شهوات الدنيا، وعاش 20 عامًا من الخطيئة، لكنه يعود إلى الله طالبًا الصفح والمغفرة، يعود إلى الله ليصبح حُرًّا، فشهوات النفس حين تملك الإنسان تذله وتُسيِّره خلفها، وما إن يتركها راغبًا تتحرر روحه مما يكبلها، لتصعد إلى الله في سماء الدنيا قبل سماء الآخرة، وقد صارت أكثر خفة، فيشعر الإنسان معها بقدرته على التنفس براحة أكثر، ودون هم يُذكر.

 

(4)

نعم.. يُحب الله الرحمن الخطّائين، يُحب رغبتهم المحمومة في وصاله، وخوفهم الدائم من الشرود عن طريقه، وتأخذ توبتهم معاني الحب في الله بعيدًا كثيرًا عن مفردات بعض البشر ومفاهيمهم القاسية، حيث يعيثون في الأرض مُطلقين معاييرهم على غيرهم، ناصبين المحاكم الأخلاقية للآخرين، مُصرِّين على حكر رحمة الله على أُناس بأعينهم، غير مدركين أن الله يشمل الجميع برحمته، فيقصون منها ما يخالف مفهوم الصلاح في نظرهم.

 

والأمر ليس بسهل على الإطلاق، فحتى وإن وصلت في رحلة بحثك عن طرقات الله إلى الإيمان بأن شعورك بالخزي جرّاء أخطائك لا يوازي أصغر باب في رحمة الله، ستجد من يدفعونك بعيدًا عنه بحجة أنه لا وجود لأمثالك أمام هذا الباب، ولا فائدة من جلوسك أمامه، فالناس كما تقول “ورد الصحراء” في رواية “قواعد العشق الأربعون”: “يكرهون رؤية البغايا، وفي الوقت نفسه يصعّبون الحياة على البغي التي تريد أن تتوب، وكأنهم يقولون لنا إنهم يرثون لحالنا لأننا سقطنا إلى الدرك الأسفل، لكن يجب علينا أن نبقى في المكان الذي سقطنا فيه إلى الأبد”.

 

نعم، يظن البعض أن مكان العُصاة دائمًا يقبع خلفهم على أبواب طرقات الله، مع أنها واسعة إلى حد تستطيع معه استيعاب البشر في كل بقاع الأرض إذا دخلوا منها مصطفين، لكنهم لا يسهلون الأمر على العائدين إلى طرقات الله أبدًا، بل يجعلونهم يشكون مئات المرات في جدوى العودة إلى هذه الطرقات، لأن شخصًا بحجم أخطائهم لا يُسمَح له بالعودة بهذه البساطة، مع أنهم لو فكروا في الأمر بضع دقائق، سيكتشفون أنه بسيط فعلاً، ذلك لأنه إن بحث الإنسان عن الله في ذاته، وطمع في كرمه، فلن يصده مهما حدث.

المقالة السابقةاللي أوله خناق آخره بريود
المقالة القادمةتعديل سلوك الطفل والتخلص من فعل رمي الأشياء عند الغضب
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا