سُكَّر مُر طعم البُكا

517

إلي محمود..

واعتذار تأخر كثيرًا

 

حين كنت صغيرة اعتدت مُعايرة أخي بأنه كثير البكاء بما لا يليق برجل، ما جعلني أُطلق عليه العديد من الأسامي المتعلقة بتلك الصفة فكُنت كلما رغبت فى كيده ومضايقته ناديته بأحد منها. بالطبع لا أفتخر بتلك التصرفات حاليًا غير أن الأمر كثيرًا ما استوقفني إذ ظل أخي لوقت طويل جدًا هو الرجل الوحيد الذي رأيته يبكي ما جعلني أحترمه أكثر الآن، وإن كان سلوكي السخيف وقتها دفعه –بعد فترة- للتوقف تمامًا عن البكاء، أم تراه مازال يبكي –أحيانًا- فقط أمام من يُقدرون ذلك؟

 

ثم كبرت وتحولت –أنا-  لشخص كثير البكاء على كل شيء وأي شيء، وأصبح هناك من يُعايرني بأنني –بتشحتف كده ليه!- ما جعلني أغضب من نفسي وأحكم عليَّا بأنني لست قوية بما يكفي. إذن فأنا أحتاج المزيد من القسوة والكثير من القدرة على الاستغناء لتُثقل الحياة قلبي وأصبح باردة، لا أهتم، المشكلة الوحيدة التي واجهتني كانت في أنني أريد أن أظل مُهتمة، فوحده الفتور يقتل العلاقات.

 

هكذا مَرَّت الأيام بي فتغيرّت، حتى أنني لم أعد أحترم من يخبرون أولادهم بأن الرجال لا تبكي، كما لو كان التعبير عن الوجع ومُحاولة التخلص منه بطريقة أو بأخرى وسيلة نسوية مُهينة لا يجوز أن تلحق برجل. أي غباء الذي يجعلنا نُمرر إلى أولادنا نفس العاهات البالية والقيم التي عابتنا وعايبنا عليها لنُخرِجهُم للمجتمع بقلوب قاسية علينا وعلى الآخرين!

الأمر لا يتوقف عند فكرة عدم الرغبة فى البكاء بل يصل للاستخفاف بمن يبكون، ما يجعلنا نستمع كثيرًا لشكاوى بسبب أن الرجال لا يعرفون ماذا يفعلون حين نبكي أمامهم –نحن- النساء، فالبعض يتوقع أننا نريد حلولًا فورية فيُسمعوننا نصائح عملية تجعل قلوبهم تبدو لنا مُصمتة، بينما البعض الآخر عرف أن النساء تُريد أشياءًا بعينها كالحضن والطبطبة فأصبحوا يفعلون ذلك كروبوتات منومة مغناطيسيًا تجعل قلوبهم تبدو أكثر تحجرًا. 

 

الأمر أبسط من ذلك فنحن لا نتمنى أكثر من التَفَهُّم والتعاطف وليس العطف أو الشفقة فإذا لم تعرفوا كيف تمنحوهم لا تلوموا نسائكم متى رحلوا عنكم لآخرين أقل فظاظة.

هنا تظهر قيمة المجتمع النسائي الذي يتفهم بكاء امرأة على أي شئ بداية من رغبة فى البكاء دون سبب مرورًا بلخبطة هرمونات وصولًا لما هو أكبر أو أكثر أهمية من ذلك. فما من امرأة ستتهمك بالتفاهة أو النقصان بل على العكس قد تبكي معك هي الأخرى تعاطفًا مع أسبابك. أو تحكي لكِ تجربة مشابهة تُشعرك بأنك لست وحدك وأن الأمل موجود.

لذا عادة حين ترغب أنثى فى البكاء تبحث عن امرأة أخرى تبكي لها/أمامها، وغالبًا هناك بعض الصديقات المخصصات لذلك، فالبكاء فعل حميمي يحتاج درجة ما من القُرب تجعلك تمنح الأخريات هذا الشرف البائس.

 

 لدي صديقة اعتدت مُهاتفتها كلما رغبت في أن أبكي، كنت أتصل بها وبمجرد أن تقول ألو أبدأ في نوبة عياط هيستيري حتى أنتهي تمامًا فنتحدث عن أي شئ آخر عادي جدًا بل وكثيرًا ما كانت تنتهي المكالمة بنوبات ضحك مجنونة نابعة من القلب. ومنذ أسابيع شاهدت فيلمًا شعرت بالحاجة للبكاء بعده فكلمت صديقة بعينها أعرف أنها ستتفهم موقفي بل وقد تجد الفيلم يستحق البكاء أكثر مما أرى، وحدث ما توقعته بالحرف.

 

قلوب البنات اللي على بعضها نعمة..

المُشاركة فى الكثير من الأفعال تُزيدها جمالًا، تُطيلها عُمرًا، أو تجعلها أقل ألمًا عما كانت، ينطبق ذلك على الكثير من الأشياء فمشاركة الفرح تجعل الفرحة تنقسم على اثنين، مشاركة الحب تجعل السعادة تُزكم أنوف الجميع، ومُشاركة البكاء تقسم ظهر الحزن فتقِّل أحمالنا بعض الشئ لنستطيع أن نستكمل الرحلة.

لذا افتحوا طريقًا رجالًا ونساءًا للوجع كي يرحل، تخففوا فإن فى الأثقال قسوة تُزيد الروح انحناءًا، ولا تُصدقوا من يرون عيبًا في البكاء أو محاولة استدعاؤه لخلق مساحة من البراح ولو قليلة، فوحدهم من اختبروا البكاء –خاصًة الشديد- يعرفون أن له لمسة سحرية تُثلج القلب والصدر فتمنح صاحبها الهدوء الكافي للتأمل والبحث عن حل مناسب لمشكلته.

 أما الهروب من الحزن وتأجيله فلن يُجدي، نعم قد يتكرَّم علينا ببعض الوقت إلا أنه لن يفعل ذلك رفقًة بحالنا بل ليُعِّد لنا -فيما بعد- انهيارًا لم يكن بالحسبان. 

 

دعونا لا نرى البكاء ضعفًا بل من سمات الأرواح المُرهَقَة، المُرهَفَة، وأحد العلامات على إنسانيتنا. والأهم دعونا نتشاركه عملُا بمبدأ “تخفيف الأحمال”.

المقالة السابقةعن الشمس الكاسفة والتقدير
المقالة القادمةاستخدامات الزيوت العطرية وفوائدها
امرأة ثلاثينية متقلبة المزاج، أعشق الرقص على السطور كتابةً، أُحب الفن بمختلف أنواعه وأعيش عليه. والآن كبرت وصار عليّ أن ألعب في الحياة عشرات الأدوار طوال الوقت، لأستيقظ كل صباح أُعافر حتى أستطيع أن أُحاكي بهلوانات السيرك فأرمي الكُرات المُلونة بالهواء ثم ألتقطها كلها في آنٍ واحد.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا