سنة أولى أم العيال

1794

المشهد الأول: الإنكار سيد الأدلة

لم أدرك سر الثقة الشديدة التي كانت تدفعني لاستنكار جملة جدتي، التي كانت تلقيها على مسامعي كلما رأتني: “البنت دي خايبة، ملهاش جواز”.

لم أتحمل يومًا مسؤولية، باستثناء دراستي، وكلما اقتربت من سن الزواج، كنت أنكر، وبشدة، عدم قدرتي على تحمل المسؤولية.. ربما هي ثقة الجهلاء.

 

المشهد الثاني: بكيزة هانم أم!

لظروف إقامتي في بداية زواجي بالقرب من بيت أبي، انتقل معي أحد أقرب الألقاب إلى قلبي، والذي أُطلق عليّ بإجماع آراء عائلتي: بكيزة هانم.

أما عن بكائي أمام أول مرة ألمس دجاجة نيئة، وكان هذا بعد زواجي بفترة، فلم يلفت انتباهي إلى أنني غير مستعدة لتحمل مسؤوليات أكبر، ولكنني فعلتها.. أصبحتُ أمًا.

 

ساعدني قرب المسافات على الاستمرار في ممارسة عادتي المفضلة، التنطع، وأشركت أمي وأختي عنوة في رعاية طفلي الأول، كما ساعدتني فرحتهما بأول حفيد.

كنت أرسل “كريم” لأمي وأنام، أو أُعد وجبة طعام، أو آخذ دشًّا طويلاً، أو حتى أحدق في الفراغ العظيم.. وكنتُ أشكو (ضحكة ساخرة، ثم صمت يقطعه صوت صرصور الحقل).

 

المشهد الثالث: جنت على نفسها

بيت جديد، في مكان جديد، يعني طفل جديد؛ “كريم” يحتاج إلى أخ، ستكون تجربة جيدة لاختبار قدراتي في الأمومة دون تدخل خارجي.. مبررات وأكاذيب أطلقها قلبي في حملة ممنهجة على عقلي لتكرار تجربة الأمومة، وكالعادة انتصر قلبي.. وفعلتها.

 

بُعد المسافات وتشبُّع والدتي بالأحفاد، جعلاني أنفرد بمسؤولية طفلي الثاني. أذكر يوم وصولي لبيتي بمفردي مع طفلَي، وجرح قيصرية لم يمر عليه أسبوع، يومها أدركت أن لا أحد هنا، لا مفر من الوقوف على قدمي لتغيير حفاض “تميم”، ثم تحمُّل معاناة المشي إلى المطبخ لإعداد طعام لـ”كريم”، والعودة لـ”تميم” الذي يحتاج إلى تغيير الحفاض مرة أخرى، فينطلق لسان حالي: “ما أنا غيرتلك خلاص! إيه المطلوب مني تاني؟!”، فيرد عقلي: “هكذا ستكون الحال.. مرحبًا بكِ عزيزتي أم العيال، ابقي خلي قلبك ينفعك”.

 

المشهد الرابع: اكتئابي العزيز.. شكرًا

لأول مرة أتحمل مسؤولية طفلين بمفردي، أحدهما رضيع، أمارس معه مسؤوليات الأم الجديدة لأول مرة، فهذه الفترة في طفلي الأول، امممم.. كنت أمًا “بس مرهقة شوية”!

 

وجدتني في دائرة لا تنتهي من المهام والمسؤوليات، ما بين تغيير الحفاض والرضاعة والتمريض، وبين طلبات ابني الكبير التي لا تنتهي. كنتُ قد تركت عملي في أشهر الحمل الأخيرة، لم أكن أخرج من البيت إلا للضرورة، ابتعدت عن الجميع، سوى صفحتي الشخصية على العالم الأزرق، فيسبوك، والتي تحولت إلى صفحة ساخرة، تمتلئ بالنكات والقفشات الساخرة، التي كنت أخفي خلفها اكتئابي ومعاناتي.. كنتُ أهرب من الاكتئاب.. ولم أنجح في هذه المرحلة.

 

المشهد الخامس: …وتحدي

8 أشهر قضيتها في دائرة الاكتئاب. كنت أعلم أن الله سوف يجد لي مخرجًا، ولكنني لم أكن أعلم من أين، حتى جاءتني مكالمة هاتفية من صديقتي تسألني إذا كنت مستعدة للعودة إلى العمل.

 

العمل؟! مع كل هذه المسؤوليات؟! يعتمد عملي على التركيز والإبداع، أّنّى لي هذا؟!

احتاج الأمر مني يومين لأخذ القرار، مع طفل رضيع بدأ في تعلم “النكش”، وطفل آخر على مشارف الدراسة والاكتئاب، كان قراري سهلاً، نعم سأعود إلى العمل.. وتحدي.

 

المشهد السادس

انقسمت ساعات يومي بين رعاية الصغير، ومتابعة مدرسة طفلي الأكبر بكل ما يحمل الأمر من معاناة، وحكايات، وتبادل الرغي مع “الماميز”، وبين العمل والمهام المنزلية السخيفة.

 

كانت البداية صعبة، احتاج العمل إلى مجهود ووقت مضاعف مني، حاولت جاهدة ألا يؤثر على طفلَي، ولكنه أثر على بعض الجوانب الأخرى من حياتي، لفترات كنت أترك المنزل بلا تنظيف، وبالطبع أهملت في علاقتي بزوجي “الله يكون في عونه.. معلش” (بصوت دلال عبد العزيز)، ثم بدأت الأمور بالعودة إلى مسارها الطبيعي تدريجيًا.

 

أعترف أنني أخفقتُ في ممارسة حياتي الاجتماعية، لا زلت أخرج من المنزل بصعوبة، ولكنني آمل في علاج هذه الثغرة، وثغرات أخرى لا مجال لذكرها.

 

وأفخر أنني أتذوق تجربة الأمومة كاملة هذه المرة، ومع وجود طفل آخر، أتذوق حلاوتها ومرارتها، أستمتع وأيأس وأخفق وأنجح وأغضب، وأضحك كثيرًا.. وأنجز عملي، حتى لو متأخرة، ولكنني راضية.

 

المشهد السابع

لم تكتمل تجربتي، لم أنجح بشكل مثالي حتى الآن، ولا أتوقع، ولكن أهم ما خرجت به حتى الآن، هو أنني أستطيع، وأنني لست خائبة، عذرًا يا جدتي، وأنني أجلس الآن وسط ولدَي وألعابهما أحمل اللابتوب، وأكتب أن ممارسة الأمومة لطفلين ليست أمرًا مستحيلاً، ولا يجب أن يكون مثاليًا، هو فقط يحتاج إلى الوقت، والصبر والإرادة والحب.

المقالة السابقةأثر الفراشة لا يزول
المقالة القادمةأوائل الحاجات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا