سلاحي السرّي داخل عقلي

433

عندما تقدمت لامتحانات الالتحاق بنموذج الأمم المتحدة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، سألني الممتحن ونحن جلوس على الأرض، إذ لا كراسٍ كافية لنا: لو قُدّر لكِ أن تحصلي على قدرة بطولية خارقة، ما هي وماذا ستفعلين بها؟

ترددت قليلاً وصمتّ. ثم قلت بعدها: الاختفاء. قال ماذا ستصنعين به؟ خجلت أكثر وسكتّ ولم أردّ.

 

لم أحصل طبعًا على مكان في النموذج، ربما لأنهم يريدون من يعرفون جيدًا ما قدراتهم الخارقة وفيما سيستخدموها. خجلت من إخباره بأني سأحصل على الطيران والاختفاء معًا، لا واحدة دون الأخرى، وسأطير نحو تل أبيب وأقتل شارون ثم أعود، وربما أكررها في ليالٍ أخرى كي أريح عبئًا ما من على المقاومة.

كنا زمنيًا بالقرب من الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005) وكنت متحمسة لأجلهم، لكن حماسي لم يصل إلى حدّ الإفشاء بأحلام يقظتي التي تشجعني على القيام بأي دور ولو بسيط. 

بعدها بسنوات، قرأت في ديوان “عن الكائنات النظيفة” للجميل محمود عزّت شيئًا مماثلاً. عبّر عنها بصراحة ودون خجل، كأنه يتحدث لصديق حميم لن يصدر الأحكام عليه. أحلام يقظتنا متشابهة إذن! أين كنت أثناء امتحان نموذج الأمم المتحدة؟!

 

يسرح عقلي مع أحداث وصور ونقاشات ومشاهدات وحكاوي، أصنع غالبيتها. تقدم لي أحلام اليقظة مجموعة متنوعة وكبيرة من الاحتمالات غير موجودة في الواقع البارد الخالي من الخيال، كاحتمال الطيران مثلاً، أو أن أبني منزلاً مستوحية تصميمه من كتاب “عمارة الفقراء” للراحل العظيم حسن فتحي. أظلّ أتخيل وأتخيل حتى لا أرضى بأي منزل عادي من أبو تكييف وشبابيك ألوميتال ولا شرفة أو حديقة ملحقة به. في تخيلاتي، كل شيء منظم وهادئ وكما أريد.

 

قد يتّهم البعض أحلام اليقظة بكونها مهربًا من الواقع يلجأ إليه العاجزون عن تغييره، لكن في الواقع لها فوائد عدة. فمثلاً عندك الاسترخاء، حيث تعطي التخيلات لعقلك إجازة من الضغط العصبي الواقع عليه، وتذهب به إلى مكان هادئ خالٍ من مصادر التوتر والقلق. في حقيقة الأمر، فإن “التخيّل المروّض” أحد أنواع العلاج بالتأمل، المستخدم لمواجهة اضطرابات القلق وأنواع الرُهاب المختلفة. تغمض عينيك، تتنفس بعمق لكي تدخل في حالة استرخاء، ثم تتخيل مكانًا لطيفًا بلا مخاوف أو أعداء، كشاطئ بحر مثلاً، أو أن تمطر السماء بلالين وفقاقيع صابون تحمل ألوان قوس قزح. صدقني، ستتبدّل حالك أثناء نوبة القلق أو نشاط الرُهاب (الفوبيا) بداخلك إذا حلّقت مع أحلام اليقظة الإيجابية، قليلاً من الوقت.

 

تساعدك التخيلات أيضًا على مواجهة الصراعات. فلو حصل وتصادمت مع شخص ما غير لطيف ولم تنجح في كسب المعركة لصالحك، ادخل الصراع في أحلام يقظتك وأعده لكن بشروطك أنت، وكرره بعدة سيناريوهات لكي تستعرض الإمكانيات المتاحة، من ردّ وكلام تقوله وردود أفعال تتخذها، كي تصبح مؤهلاً لفيما بعد، حين يحدث موقف مشابه، ستعرف ما تقول لأنك حضّرته في ذهنك مسبقًا.

 

هناك جانب لطيف أيضًا للتخيلات، إذ أنها مع البُعد تتيح لك الحفاظ على العلاقات الشخصية، لأن الغياب “يجعل القلب أكثر محبة”، كما يقول المثل. فالحالمون يتخيلون مواقف وأحداث ومناقشات، عند بُعدهم عن محبيهم، يتخيلونها وقد أدخلوهم فيها، فيتناقشون معهم ويتحدثون إليهم ويبتسمون في وجوههم، وربما يرقصون رقصة هادئة ثنائية، تحمسهم لأدائها حين يعودون للُقيا والتجمع.

 

ويمكنها أيضًا أن تزيد من الإنتاجية. فغالبًا عندما تزدحم المهام عندي وتتراكم فوق رأسي، أتيح لنفسي نحو 20 دقيقة أفصل فيها من الواقع وأسرح بذهني. أتخيل أناسًا ومواقف. غالبًا ما يأتي لزيارتي في عقلي شخص لطيف جدًا عذب الوقع، أحكي له بحماس عن أشياء متعددة. أنا لا أحكي عادة، لذلك مَلَكة الكلام عندي غير مدرّبة، لكن في سرحاني أنطلق بالكلام والوصف والحكي الحماسيّ. أحكي له وهو “يراعيني” كما تقول أم كلثوم، ينصت جيدًا ويعطي ملاحظات ذكية. عند انتهاء عشرين دقيقة، أكون قد أخليت عقلي من مشتتاته وأعود لاستكمال عملي بتركيز أكبر.

 

بعد تاريخ معيّن لفترة ما من عمري، غزت رأسي تخيلات مفزعة بالقتل والهروب والموت والدماء. كان شيء ما، كلمة مثلاً أو موقف حصل أمامي، يثير سلسلة كاملة من التخيلات السيئة. كنت في البداية أستسلم لها لأجد أن عقلي مليء بالظلام والدماء والصراخ. بعدها بفترة، صرت أقاومها لأني وجدت أنها تحتلّ كياني بالبؤس واليأس والحزن البالغ والألم. صممت على مقاومتها، فكلما جاءت فجأة لتجلس، أطردها وأتخيل شيئًا مضادًا، كطفل يضحك أو شخص يتحدث بألفة. أبعدها عن ذهني فتأتي ثانية، أتخيل بحرًا واسعًا وصديقاتي يجرين معي عليه ويطيّرن طائرات ورقية شفافة وملوّنة. تأتي ثانية فأدندن لأم كلثوم أي شيء، وأتخيلني جالسة مع الست ثومة لأخبرها عن أشياء شخصية. 

 

في النهاية، أنجح أنا وأنتصر، وتملّ تلك التخيلات من تكرار محاولة الغزو فتذهب إلى ذهن شخصٍ آخر. بالدواء والعلاج بالكلام، نجحت -والحمد لله- في تقليلها جدًا، وصرت أترقب زيارتها كي أبدّل مسارها وأحوّلها إلى شاطئ ملوّن تغزو سماءه فقاعات الصابون ومربعات شفيفة ملوّنة طائرة.

 

الخلاصة.. لا تخجل من زيارات الأحلام لعقلك وأنت صاحٍ، استسلم لها قليلاً شرط ألا تقلب كيانك نحو البؤس والشجار. اسرح معها وابتسم، أرح عقلك من الواقع وأغمض عينيك، غنَ شيئًا ما وافرح بزيارة كائنات الحلم الرقيقة التي تُخرج من رأسك زهورًا ووردًا صغيرًا جدًا، دلالة على انشغاله بصنع شيء جميل جدًا، يبهجك ويرفع عنك الضغط والتوتر وقرف الموجودين بالواقع. افرح بزيارتها واصنع لنفسك كوبًا من شيء لطيف الوقع، كفنجان شاي غير مفرط في السخونة، وعُد لعملك شاعرًا بالتواطؤ مع تلك الكائنات التي منحتك شيئًا من فرح لا محدود.

المقالة السابقةالتعليم .. هيا نتبادل الأحذية
المقالة القادمةشرط المحبة الجسارة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا