زين” الذي وُلِدتُ يوم وُلِد

687

 

بخُطى وئيدة اقتربتُ من مهده الصغير، أتراقص على أطراف أصابعي كإحدى راقصات الباليه. بُللت رئتاي بتلك الأبخرة العطرية الدافئة المتصاعدة عبر أنفاسه، وبهدوء مضطرب انتشلت أجنحته الصغيرة وضممتها بقوة إليّ، حتى كدت أشعر أنني من قوة الضمّة كسرتها، هذا كله فقط لأستعيد حرارة تلك اللحظة، لحظة ميلاد “زين”، صغيري الذي يبلغ من العمر حتى لحظة كتابة هذا المقال 3 أشهر و16 يومًا.

 

فقبل ١١٧ يومًا من الآن، وتحديدًا في فجر يوم 17-10-2017، تلحّفت ضعفي وقلقي اللحوحين في هذه الزاوية الواقعة على بُعد خطواتٍ مني، ورحت في نوبة بكاءٍ شديدة، مرّت خلالها أحداث الأشهر التسع العصيبة من أمامي مهرولة، كأنها قطار ماجن يخترق صفحات الظلام الحالك ليعيث بهدوء الأجواء من حوله فسادًا.

 

هالني صوت ذلك الهاجس المنبوذ بداخلي حين حدثني قائلاً: “إزاي هتدخلي غرفة عمليات وتتخدري ويفتحوا فتحة في جسمك، وإنتي اللي عمرك ما خلعتي ضرس؟!”، هاجمته بما وقر في نفسي من اطمئنان استقيته من بحث في تجارب الآخرين، قائلة: “أيوة بس كل يوم فيه ناس بتعمل العملية دي وبتعيش عادي”، فطرحني أرضًا: “أيوة بس الناس دي محلموش بكل اللي ماتوا لهم لمدة أسبوعين متواصلين قبل العملية”، استسلمت أخيرًا لسطوة الأمان بداخلي، وقررتُ أن أضع حدًا لهذا العراك الدامي، وأذهب معصوبة العينين حيث تشاء إرادة من أراد لهذا الشيء في أحشائي أن يكون، فكان.

 

خلال رحلة الخطى الثقيلة المتثاقلة من بيتي إلى المستشفى، القريبة جدًا منه، كانت العثرات في عيني أثقل من أن تتوارى خلف الجَلد، شعرت بتلك الحرارة تكوي جفنَي كيًّا كلما عاندت شهية الدمع وتماديت في إظهار عكس ما أشعر، كان لأصوات ضحكات أخواتي الحالمات وابتسامة ثغر أمي الصبورة وقع غريب حينها، لامست بيدي أركان ذلك الشعور الذي لم أختبره حتى يومها، بأن “الروح غالية ولا يستطيع أحد تقدير قيمتها، ولا حتى الجسد المملوء بها إلا حينما يعتريها خطب ما”، في ذلك اليوم كان خطب مفزع يعتري روحي، بل يتحفظ عليها تحت مخالبه كطائر جارح مستأثِر بفريسته.

 

قاومت ضعفي حد التعب وتظاهرت باللا مبالاة حد التورط فيها، حقيقةً لا ادَّعاء، حتى جيء لي بذلك السرير المدولب الذي تُحمل الضحايا عليه في ساحات المعارك، ليتم التعامل مع جراحها في غرفة العمليات، ومن ثم يتبين ما إذا كان هناك أمل أم لا. جرحي في تلك اللحظة كان عصيٌ على التعامل معه، كنت قد استسلمت لضعفي وقلقي حد فقدان القدرة على التحكم في أطرافي، وبينما أنا ممدة على هذا المدولب، كانت العبرات تقفز من جانبي عينَي كأنها فئران وليدة يطاردها قط مفترس، تُقبّل أمي جبيني وتمسح خطايا الدمع عن جفنَي فتعاود الفئران فعلتها وتهرول هروبًا من القط المفترس، فتجدد خطايا دموعي فعلتها هي الأخرى.

 

دفء خافت، فشعور مفاجئ بالوحدة يعتريها البرد، فرجفة تستشري في أوصالي، وهلع أصبح هو سيدي وسيد الموقف كله، وبين لحظة وتاليتها تخلت جدران المبنى وأرضه عني وحدي من بين كل الحضور، واستحالت كل محددات المكان لسقف يصرخ بالأضواء، لونه أبيض فاقع، يوجع الناظرين، يخطو المدولب خطواته المسموعة بدأب غريب، ويحتل الصقيع كل موطن للدفء في.

 

وبعد نفق طويل من أنوار السقف الساطعة والبرودة غير المحتملة والوحشة، بعيدًا عن حضن أمي، دلفت إلى ثلاجة واسعة، بابها معنون “غرفة العمليات”، كنت هَلعة من هول ما أنا بصدده، تطايرت الأسئلة في رأسي كحمم بركانية ساخنة، مغايرة لطبيعة الأجواء من حولي: هل سيحول الخوف دون وصولهم لأحد عروقي الباسلة، أم أن جميعها سيجبن مثلي من هول ما يشعر؟ هل سيفور الدم من بطني بمجرد شقه بالمشرط؟ ويحاولون إنقاذي فيفشلون وأرحل بلا عودة؟! تُرى هل سأشعر بذلك الألم الشديد بالفقري بينما يحقنه الطبيب بالمخدر؟ هل يمكن أن تتسبب تلك الإبرة في إصابتي بالشلل؟ إذًا هل لي بحركة في قدمي لمرة أخيرة؟

 

وبينما أنا في دوامتي الخاصة أسأل، ترتجف أوصالي رافضةً الإجابة، إذا بطبيب التخدير دكتور عماد كما سمعتهم ينادونه، رجل أربعيني، ذو ملامح مألوفة، بها مسحة من الطيبة، تشعرك للوهلة الأولى أنك تعرفه، شعرت فيه بشيء من الألفة؛ أغمضت عيني للحظة فشممت رائحة أمي الآمنة وابتسمت لأتجاوز دوامتي الأولى إلى دوامة جديدة؟  ما لي وما للحمل والولادة بس يا ربي؟ ما كنت مرتاحة وبخطط لمستقبلي وبطور من نفسي؟ ليه استجّبت لزنهم؟ أنا خايفة قوي يا رب، يا رب لو هموت بلاش تخليني أموت موجوعة.

 

صوت دكتور عماد الذي يحاول إيجاد عرق باسل في يدي يخترق الدوامة خاصتي قاصدًا أذني: اسمك إيه؟ منى. وليه جسمك بيرتجف بالشكل ده؟ لأني خايفة قوي أنا أول مرة أدخل غرفة عمليات. بتدرسي ولا بتشتغلي؟ بشتغل صحفية. طيب يا أستاذة أنا ليه حاسس إنك قوية وأقوى من كده؟ إن شاء الله بسيطة وتقومي بالسلامة.

عَبرة أخيرة تكسوها نصف ابتسامة ولسان مرتجف بدأ في الدعاء لمن أوصوه سلفًا بالدعاء وجفن استجاب لنداء التسليم بإرادة الله فاحتضن نصفه الآخر وسكن.

 

سكينة لم تدم طويلاً بعثر وقارها صوت “زين” يكمل صرخة كان قد بدأها قبل أن يشقوا السور الذي يفصل صوت وأنفاس أحدنا عن الآخر، جاؤوا به إليَّ كي أقَر به عيني، فشعرت وكأنني فطرت على حبه قبل 27 عامًا، ونسيت حنقي كله بسبب الحمل وشهوره الثقال، تناسيت حتى هول اللحظة الذي أشعلته رائحة جلدي الذي يقومون بكيّه، ولم أر سوى ملامحه البكر وكفه الدقيقة تلمس خدي في حُنو لم أعهده يومًا. سألني زوجي الذي كان يستعد لتصوير ثلاثتنا فيديو للذكرى: تقولي إيه لزين يا نونو؟ فأجبته باكية بحشرجة غير مفهومة: بحبك.. بقوله بحبك يا زين.. بحبك قوي.

 

تفاصيل كثيرة أذكرها كلها كأنها وقعت للتو، تستفيق في جسدي الآن كل قشعريرة عايشتها، وتزكم رائحة العمليات أنفي، حتى أنني أكاد من فرط الدوار أستسلم للشعور بالقيء كما -حينها- فعلت.

 

في نهاية اليَومَ خرجتُ من ذلك الصندوق قارس البرودة فتاة أخرى، غير التي أعرفها، وكأنني دخلت العمليات لأُولَد لا لأَلِد، مرت الأيام الأولى عليّ صعبة جدًا وثقيلة، ولكني كنت عازمة على اجتيازها وتجاوزها سريعًا وبمهارة استثنائية، رغم كل الألم الذي كنت أعايشه لحظة بلحظة، وعادت قوتي التي كنت قد طرحتها أرضًا قبل عشرة أشهر من تلك اللحظة، سخَّرها الله سبحانه وتعالى لي عُكازًا أتوكأ عليه، فبعد مرور أسبوع واحد من الجراحة، عاندت وجعي وصممت على تنحيته جانبًا، قمتُ لتغيير “البامبرز” لزين رغم عدم إضطراري لذلك في وجود أمي وأخواتي، لكني رغم دوامة عدم الإدراك التي كنت أستقل دورًا فيها، شيء ما كان يدفعني بقوة كي أكون كل شيء يليق بـ”زين”.

 

“زين” الذي يشبهني في كل الأشياء التي أحبها في نفسي ويحبها الآخرون في ويتفوق عليَّ في هفواتي، قرر “زين” -وعلى عكسي تمامًا- أن يواجه الحياة ومطباتها الصناعية بوجهه، لا أن يعطيها ظهره، فقد اختار من بين كل الأوضاع المألوفة للأجنّة وضعًا خاصًا بِه، يوجه فيه عينيه نحو من يقابله، مسندًا مؤخرة رأسه على عمودي الفقري.

 

في أول لحظة اختليتُ فيها و”زين” بنفسينا بعدما قمنا بوداع  أمي وأبي وأخواتي وذهاب أبيه للعمل، بعد أسبوعين فقط من الولادة، أغلقنا باب الوداع غير مكترثين بما دار خلفه، واحتضنته كقطرة مياه أخيرة في بئر صحراوية وحيدة، وظللت أُقبل خديه وعينيه وكفيه وقدميه متسائلة: ماذا فعلت يا الله كي تمنحني ذلك المخلوق رائع الجمال؟ وتهشمت كل نظرياتي في الحياة على أعتاب براءته معلنة للمرة الأولى أن الوقت الحالي هو الوقت الأمثل لهذا اللقاء الذي كنت أخشاه كثيرًا كثيرًا، فقد أصبح “زين” حلقة الوصل بيني وبين العالم في اللحظة التي قررت فيها إفلات يدي من بين أصابعه الواهية.

 

مرت ثلاثة أشهر الماضية عليّ كأنها حلم مُربك، لم أستفق منه بعد، صحيح أن أناي الفطرية متراجعة بشكل لافت وتطلعاتي لنفسي ضالة في كهف حالك الظلام، تكاد الرؤية فيه أن تكون منعدمة، إلا أنني أحب كل اللحظات التي أعيشها رفقة “زين”، وأندم كثيرًا كثيرًا على أي لحظة أفوّتها على نفسي لانشغالي في عمل شيء آخر، يغلبني كثيرًا الشعور بالإنهاك لكثرة تفاصيل يومي وتكالبها عليّ، فأبكي بحرقة كشريد توسعه الطرقات وجعًا وبردًا في ليل الشتاء، فأعود على صوت إحدى ضحكات “زين” الأخّاذة. “زين” الذي أصبح يحملني معه حيث يذهب، ويجبر روحي طوعًا على الارتواء بالحب بعد ظمأ الراحة.

 

في ذكرى ميلادي لهذا العام، أقف على ناصية عامي الـ٢٨ معتلية قمة من نور، عنوانها الأمومة، أعطتني بقدر ما أخذت مني بل وأكثر، معها وبها تضاعف إيماني بأني قادرة على تحقيق أي شيء متى أردت، ولهذا قررت أن أتحاشى كل شعور سيئ خالجني مُذ أصبحت إحدى عضواتها، وأتكئ على حلمي وتحاملي ويد “زين” الصغيرة، لأقول لكل من تشكو إنهاكها وتراجع خطواتها بسبب الأمومة: النجاح في الحياة مع الأمومة ممكن، أي والله بل وأكثر من ذلك، فالأمومة هي ما تجعل للنجاح والتحقق طعمًا أكثر حلاوة، والله لو تعلمّن، فقط “حبة صبر.. حبة حماس.. يبقى الحلم صورة وصوت”.

 

خلال ساعتين من استحضار الشعور الذي عبرت عنه بمداد خيالي ألف مرة ومرة، بحثت خلالهما عن تعبيرات أهل لاحتضانه للمرة الأولى بين ورقة وقلم، أفاق “زين” من نومه الزئبقي 4 مرات، ما اضطرني لإبقائه في حضني، ممسكة إياه بإحدى يدَي بينما أكتب بالأخرى، الحقيقة أن هذا كان قراري منذ بداية عهد الحب بيننا، والذي أظن أنه سيسير معي على دربه، حينما يُزهِر أكثر وتصبح لديه وجهة نظر ليتبنى، أن نظل معًا مهما تمردت الأجواء علينا، وأن نواجه الظروف مهما أعلنت أطرافها علينا من حروب.. وها نحن نفعل.

 

 

المقالة السابقة6 أفكار مستخبية لتدليع النفسية
المقالة القادمة5 مخاوف و5 احتياجات للسنجل ماذر
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا