رغم أن البوح يشفي لن أبوح

1332

 

بقلم/ وفاء خيري

 

سمعت وقرأت وعرفت من كثيرين أنه كلما كانت الحياة أشد معاناة، كانت هناك فرصة في بروز أديب أو شاعر، أو مبدع في أي من مجالات الفن، ولا يقتصر الأمر على الأشخاص فحسب، بل من خبرتي الأدبية البسيطة، عرفت أنه كلما كانت الحياة قاسية في بيئة ما أنتجت أدبًا وفنونًا دسمة وزاخرة بالمعاني العظيمة، وكذلك يحدث العكس في بلدان الرخاء والرفاهية، وإن تأملنا الوضع بدقة سنجد أن جُل ما كتب من نصوص وأشعار أدبية كانت من نبع المشاعر الذاتية والمِحَن، سواء كانت آلامًا ومأسي أو حتى من نبع تجارب الحب القاسية.

وغالبًا ما يبدأ التبلور الأدبي للكثيرين بتلاوة مآسيهم وفواجعهم الذاتية، سواء في صورة نثر أو شعر أو حتى ومضات أدبية ذات معنى، وهذا الأمر ليس محدودًا في فنون الكتابة والآداب فحسب، بل يشمل المقطوعات الموسيقية والرسومات وغيرها من أشكال المقاومة الرمزية التي يلوذ بها الموجوعين، بأي شكل كانت.

 

والسؤال هنا: هل يحق لنا، نحن المعذبين والمتألمين، أن نسرد آلامنا ونرويها للعيان لنصنع منها نصوصًا أدبية وفنونًا عظيمة يصفق لنا عليها الآخرون؟
هل نقبل بالمساومة وتحويل الألم إلى إبداع ينال استحسان وإعجاب الآخرين، بينما نحن نتضور ألمًا؟ أي بدلاً من أن نكون خاسرين لكل شيء، فعلى الأقل اكتسبنا التضامن والانتشار، بدلاً من الخيبة التامة؟
أم هل تكون السعادة والاستكانة حلاً عمليًا للمُضي قدمًا وعيش الحياة بسلام داخلي ورضا؟

من نبع تجربة ذاتية، لا أجرؤ أن أسميها معاناة أو مقاومة، لأني اخترت وقررت أن أنساها وأتصالح معها، بل لم أستطع أن أخرج منها كالضحية، لا أحب أن أكون ذلك الشخص، ولا أعرف كيف أكونه، ولكن حسب ما تؤكد ذاكرتي القوية أني قد تألمت يومًا وعرفت كيف يتغذى الحزن على البشر، ولا يُبقي سلاحًا إلا الكتابة أو التعبير عن الوجع بأي شكل مستطاع، أتذكر حينها أني كنت أكتب بغزارة، وتمكنت من إنتاج بعض النصوص الأدبية الجيدة، التي قيمتها فيما بعد، ولكن لم أجرؤ قط أن أنشرها علنًا.

 

لم أستطع أن أظهر أشخاصًا مقربين لي على هيئة مذنبين، رغم أني تأذيت منهم، لكني لم أقبل أبدًا أن أهينهم وأصورهم بالوحوش في كتابات تظهر أمام الجميع، حتى لو كانت متوارية، كما لم أجرؤ أن أجسد مخاوفي وهواجسي وأحزاني للآخرين، وأنا التي اعتدت أن أكون قوية حتى في أشد الأوقات انكسارًا، وعلى الرغم من أن فكرة الكتابة تراودني من حين لآخر وأرغب بها، لكني لا أجد أحاديث أو موضوعات أعبر بكلماتي عنها، فكلما فتشت لا أجد إلا تلك المآسي، كي أكتب عنها وأخرج موهبتي الدفينة من خلالها، إن جاز أن أسميها كذلك.

 

وفي كل الأحوال أنا لست حزينة لهذا، ولن أتكلف مشقة النبش في الماضي والبحث عن الأوجاع حتى أُظهر إبداعاتي، ولو لم أجد طريقة غير تلك لن أفعلها، سوف أكتب وأكتب وسأظل أكتب ولكن لن تخرج كتاباتي إلى النور ولن يقرأها أحد غيري، ما تفاوضت مع نفسي على التجاوز والنسيان.

 

وفي رأيي فإن التصالح والوصول إلى السلام مع النفس أسمى وأهم من تجسيد الآلام في كتابات، مهما كبرت ونالت من إعجاب، لن تكون سوى مجرد كتابات أو فنون أو رسومات لقارئها أو ناظرها، وليست مشاعر تُدمي الآخرين كما تدميني.

 

هل يحق لناسرد آلامنا لنصنع منها فنونًا عظيمة؟

 

المقالة السابقةمن كان منكم بلا خطيئة فليرم الأمهات بحجر
المقالة القادمةمن سيشتري البرتقال في الثانية صباحًا؟!
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا