الإلهام.. كلمة في منتهى التعقيد، لا أستطيع أن أصف شيئًا بالتحديد لأقول هذا هو سبب إلهامي، لأن الإلهام من الممكن أن يكون أي شيء.. أماكن، روائح، ذكريات، أفلام، أشخاص، ترتيب فتارين العرض الخاص ببعض المحلات بشكل خاص وليس بشكل تجاري متداول.
الإلهام الخاص بي اكتشفته من فترة طويلة، وبالرغم من مرور وقت طويل على اكتشافي له لكنه لم يتغير مع الوقت، بل ربما صار أكثر عمقًا وتأثيرًا بداخلي، لحظات من المتعة الخالصة التي لا أشعر خلالها بالوقت، المشي في شوارع الزمالك في الشتاء، مقارنة ترتيب فتارين عرض المحلات وألوان الملابس أو الهدايا أو محلات الأنتيكات والتحف وصالات المزادات التي تدخلني إلي عالم يشبه عالم علي بابا السحري.
المقارنة بين أشكال أبواب الكافيهات والمطاعم وتفاصيل الديكور الخاص بكل مطعم، ومتابعة الجالسين في المطاعم، ومحاولات شخصية جدًا لمعرفة حواراتهم عن بعد، ليس بغرض الفضول ولكن لقراءة الوجوه وتعبيرات البشر.
الفتاة التي تبكي لحبيب قرر إنهاء العلاقة، الحبيب الذي يستعطف فتاته لتبقى معه وقتًا أطول، الجرسون الذي يطيل الوقت الذي يضع فيه الطعام حتى يحظى بأكبر كم من التفاصيل المحكية أو أكبر مساحة من النظر إلى ساق الفتاة المكشوفة تحت الجوب القصير.
الفتاة التي تدخن، ليس حبًا في التدخين، لكن لتكون كما يتمنى حبيبها، فيظهر ذلك بوضوح في أصابعها المرتعشة بالسيجارة وطريقة تدخينها وطردها للهواء، وكتمها للكحة البسيطة حتى لا يضحك منها حبيبها الخبير.
الفتاة التي لا تعرف كيف تختار من قائمة الطعام وترتبك فيلتقطها منها حبيبها ويختار لها، ليرفع عنها الحرج ويزيح الشوكة ويخبرها أنهم في إيطاليا يتناولون البيتزا بدون شوكات، فتبتسم ويبتسم هو ويأكلان بهرج وضجيج دون اهتمام بنظرات الاستنكار من حولهما.
متابعة العجائز المبتسمين بوجوههم المضيئة وملابسهم المزهرة وهم يتنزهون النزهة اليومية مع كلابهم أو قططهم اللطيفة، وعدم اكتراثهم لأي شيء في العالم بكل ما يحمل من كوارث وأمراض وحروب، طالما أنهم يستطيعون متابعة النزهة اليومية لحيوانهم الأليف.
الجلوس على النيل ومراقبة العوامات على الجانب الآخر من النيل وتخيل ما يدور داخل كل عوامة.
العوامة البيضاء صاحبة الأعمدة الزرقاء، التي تبدو كأنها خرجت من فيلم مصري قديم، ومن خلالها سأنتقل إلى عالم قديم من العوالم والراقصات اللائي يرقصن بالشمعدانات أمام سي السيد.
لا أملّ من الجلوس والمتابعة عن بعد، ومراقبة وجوه البشر وتعبيراتهم وأصواتهم وملامحهم، بشغف وصبر، وتدور أحاديث طويلة بيني وبين نفسي عن مدى صدق الشخص أو كذبه أو غروره أو حبه للناس.
بعد كل الوصف السابق للأشياء التي أعتبرها مصادر إلهام، اكتشفت أنها ممكن تلخيصها في جملة واحدة السكوت والمراقبة والتأمل.
مراقبة البشر وتصرفاتهم وردود أفعالهم تجاه المشكلات والمشاعر وتجاه البشر الآخرين.
أجلس في منتصف الأحداث، لكني اكتشفت أني غالبا لا أكون جزءًا منها، وأفضل اختبار ردود أفعال الآخرين وتخيل ردود الأفعال الخاصة بهم، ومقارنتها بعضها ببعض والتفتيش وراء أسباب كل رد فعل.
بعد وقت طويل من المراقبة للبشر أشعر أنني أمتلك حصيلة واسعة من الخبرات بملامح البشر، وردود أفعالهم وتصرفاتهم تجاه مشكلات بعينها، وأجلس في صمت وأخبر نفسي هكذا سيفعل هذا الشخص عندما يغضب أو هكذا ستتصرف تلك الفتاة عندما تشعر بالحرج، وبالطبع القريبون مني أكثر عرضة لعدسة المراقبة وتخمين أفعالهم.
أصبحت أتابع الناس حتى دون قصد مني مهما كان الموقف محرجًا أو عنيفًا أو مؤلمًا، متعة اللعب والاكتشاف والتخمين تطغى على كل شيء، وعندما أدخل اللعبة لا تنتهي ولا تتوقف، أشاهد المواقف تحدث أمامي كأفلام على شاشة عرض، وأنا أخمن المشاهد القادمة.
الغريب في الأمر أنني أصبحت ألعب اللعبة حتى في المواقف التي أكون طرفًا فيها، لا أتوقف عن وضع من أمامي في اختبارات غير مقصودة لمتابعة رد فعله ومقارنته بما يدور في رأسي، وعلى قدر المتعة من الأمر إلا أنه أيضًا مرهق ومنهك جدًا للعقل الذي لا يرغب أحيانًا في هدنة وراحة من التخمينات والمعادلات الإنسانية الشديدة التعقيد.
لكن بعد انتهاء اليوم أجلس قبل النوم لمراجعة أفعال الناس وتفنيد شخصياتهم وردود أفعالهم، مع مئات التخيلات التي تلهمني الكثير عن الطبع الإنساني المعقد، وأشعر أنني لو اخترت مهنة أخرى غير الكتابة ستكون هي مهنة التحليل النفسي لأنها ستعطيني فرصة لمتابعة البشر وسيكولوجياتهم طوال الوقت لا أظن أن هناك متعة ما تفوق تلك المتعة بالنسبة لي.