5 تصورات ظلمت الحب

2002

بقلم/ سمر صبري

طالما أحببت سلسلة الفنان أحمد رجب الكاريكاتيرية بعنوان “الحب هو”، رسوم تبدو للوهلة الأولى ساخرة من الحب، لكنها في حقيقتها ليست كذلك، عالجت السلسلة في جمل قصيرة ورسوم ضاحكة معاني كبيرة مرتبطة بالحب، مثل: “الحب هو أن تجتهد لتفهمها”، وفي الكاريكاتير المصاحب رجل يدخل بزوجته إلى مكتب ترجمة. أو “الحب هو صفات مشتركة”، وفي الرسم امرأة حامل وزوجها يتدلى “كرشه” أمامه.

 

أطالع الرسوم وأبتسم، لكن مطالعتها كانت تجعلني دومًا أتساءل: ما هو الحب فعلاً؟

اختلفت إجابتي على السؤال باختلاف مراحل عمري وبتغيُر منظوري للحياة، وأظنني لا أنا ولا أي شخص بالعالم قادرين على وضع تعريف أمثل للحب، وفي استحالة ذلك جزء كبير من سحر الحب، لأن العجز التام عن توصيف هذا الشعور الجميل، يعني سموَّه عن الوصف بعبارات، وربما كل محاولات الشعراء والأدباء في هذا الشأن لم تكن تأصيلاً نظريًا لماهية الحب، بقدر ما كانت محاولات لرصد الإحساس، وما تتركه التجربة في النفس، محاولات تقرأها وتسمعها لتعي أن النفس البشرية تتماس في نقطة واحدة مهما اختلفت دواخل النفوس، وأن إحساسًا واحدًا قادر على توحيد البشر باختلاف ألوانهم وجنسياتهم وعقائدهم.

 

أما عن تعريف الحب وبمنطق “لو مش عارف عايز إيه.. فمع الوقت هتعرف مش عايز إيه”، أصبح بإمكاني لا أن أعرِّف الحب، وإنما أن أحدد بعض التصورات التي لا يمكنها أبدًا أن تمثل الحب.

 

(1)

عندما رأيتها لأول مرة، لم يحدث لي أي شيء، لا تدَع الأفلام والأغاني والروايات تخدعك، وتوهمك بأن صواعق ستحل عليك حين ترى محبوبتك لأول مرة، وأن النور سينبلج من الظلمة ويغشاك توهُّج يجعل خلاياك تحترق”. عز الدين شكري فشير- رواية باب الخروج.

 

مخطئ من يظن أن الانبهار الفوري بالآخر مرادف للحب، أو أن الشريك لا بد أن يكون خارقًا لكل ما هو طبيعي ومألوف ليبهر شريكه ويخطف قلبه من أول مرة يراه، يكفي المرء فقط نظرة متأنية في عشرات القصص التي تحيطه عن أحباب جمعتهم أماكن واحدة ولم يكونوا يلتفتوا لبعضهم البعض في بادئ الأمر، وشخصيًا لم أثق يومًا وعلى أي صعيد حياتي بأي شخص أو شيء يبهرني من أول لحظة، بل ما استقر في ذهني مع تقدمي سنًا أن أعمق مشاعر هي تلك التي تولد على مهل غير متأثرة بانبهار زائف يزول مع الوقت، وأن المبهر حقًـا هو أن يحدث العكس، أن يجعلك شخص شديد العادية ترى فيه ما هو غير عادي واستثنائي.

 

(2)

“ليتنا أنا وأنتِ جئنا للعالم قبل اختراع السينما، لنعرف هل هذا حب حقًا أم أننا نتقمص ما نراه” أحمد خالد توفيق- قصاصات قابلة للحرق.

 

تستوقفني دومًا مقاطع الفيديو التي تغزو السوشيال ميديا مصحوبة بتنهيدات حارة، عن عروض زواج لمراهقين يجلس فيها الفتى على إحدى ركبتيه ممسكًا بخاتم، بينما تقف الفتاة مرتبكة وحولها صديقاتها يصحن من فرط التأثر. كنت أشعر في أغلب الأحيان أن ثمة شيئًا اصطناعيًا في هذه اللحظات، حتى أن المشهد صار محفوظًـا باختلاف شخصياته، ومن فرط تكراره في نوبات تقليد متتالية بات ينقصه الإحساس الصادق باللحظة. أذكر أنني صادفت مرة موقفًا مماثلاً على الطبيعة في أحد المطاعم، وكان التصنع سيد المشهد، وكأن الجميع يؤدي أدوارًا محفوظة بمسرحية.

 

ظُلم الحب بصور نمطية صدّرها المجتمع على أنها قمة الرومانسية: دباديب.. ورود كل صباح.. غزل دائم، مفاجآت لا تنتهي. صحيح أن كل ذلك قد يعكس حبًا، لكن بالقطع لا ينحصر الحب في ذلك وحسب.

 

(3)

“لا يمكنك، مهما أوتيت من منطق أو عقل، أن تفهم علاقة رجل بامرأة ما لم تكن أنت هذا الرجل أو هذه المرأة”. عز الدين شكري فشير- رواية باب الخروج.

 

في الحب ليس هناك كتالوج موحد بالإمكان تطبيقه على كل اثنين، بل لكل اثنين كتالوج خاص بهما في الحب.

الحب تجربة فريدة لكل ثنائي، كالبصمة الوراثية التي لا تتكرر، ربما تتشابه بعض البدايات والنهايات، لكن القصة كاملة بكل تفاصيلها لا يمكنها إلا أن تكون ذاتية.. لا تُعمم، لذا يخطئ من ينصاع تمامًا لنصائح الآخرين لتوجيهه في التعامل مع شريك يُفترض أنه أكثر الناس فهمًا له، فالمعادلة دومًا طرفان وحسب، ولا يمكن لأي طرف آخر أن يفهم شريكك أفضل منك.

 

(4)

“لا أعرف شيئًا آخر عدا أن أُذعن لفعل ما لا أحب مِن أجل مَن أحب”. سعود السنعوسي – رواية حمام الدار.

 

لم يكن الحب يومًا تطابقًا تامًا لطرفين يحب كل واحد فيهما ما يحبه الآخر، ويكره ما يكرهه، ولم تكن يومًا الاختلافات بين أي اثنين أمرًا يستوجب الفزع، هي ليست أمرًا بديهيًا وحسب لاختلاف بيئة الطرفين، وإنما تنطوي الاختلافات أحيانًا على متعة استكشاف عوالم أخرى غير معهودة، لولاها لكانت الحياة بلا أي جديد، المهم فقط في النهاية أن يكون بين الطرفين مساحة مشتركة كبيرة تلتقي فيها الأفكار والأحلام، أما تلك المساحة غير المتشابهة فتكشف عن حب حقيقي، فقط إن بدا كل طرف مستعد ليشارك فيها الآخر فيما لا يحبه هو بطيب خاطر، وبرغبة حقيقية في تذويب الاختلافات وتقليل المسافات بينهما، تغنت بذات المعنى شيرين حينما قالت: “وعشان بحبك.. حبيت حاجات مبحبهاش”.

 

(5)

“الحب ليس  انخطاف الأنفاس، ليس الإثارة، ليس إصدار الوعود والمواثيق الأبدية، الحب في ذاته هو ما يبقى بعد اختفاء شعور الوقوع في الحب”. لوي دو برنير – اخرج في موعد مع فتاة تحب الكتابة.

 

ربما جزء أصيل من الحب يتمثل في انخطاف الأنفاس والإثارة وإصدار الوعود الأبدية، لكن كل ذلك مجرد مشهد من الصورة الكلية، والصورة الكلية للحب لا يمكن رؤيتها أبدًا إلا بعد تخطي مرحلة سحر البدايات الحالمة، حينما يخفت نجم المشاعر المتأججة، أو بالأحرى حينما تتخذ المشاعر صورة أخرى رصينة ومتزنة، حينما يبدأ الطرفان استكشاف جوانب مزعجة في بعضهما بعض، ثم لا يُغير ذلك فيهما شيئًا، ربما لذلك تخطف قلبي دومًا تلك الجملة التي تغنى بها وائل جسار: “حبيته لما أنا شفت عيوبه.. ومفيش أجمل من كده”، وربما لذلك قيل: “يبدأ الحب حينما ينتهي الحماس”.

 

تبحر بي دومًا سلسلة “الحب هو” في دوامات التفكير في ماهية الحب، وأظن في كل مرة أبتسم فيها عند مطالعة تلك الرسوم الكاريكاتيرية.. أن الحب هو أن أبتسم حينما تطل في رأسي.

المقالة السابقةنجمي وفنجاني وحلمي الذي رأيته بالأمس
المقالة القادمةومن الفشل أصنع نجاحًا

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا