فيلم خرج ولم يعد رؤية فنية لمحمد خان عام 1984، الكواليس وتحليل الفيلم

2966

عندما بدأ في شرح أعراض المرض الواضح على أوراق الشجر وعلاجه لـ”خيرية” (ليلى علوي)، اعتقدت أنه مهندس زراعي شاطر، ولكني فوجئت به يخبرها أنه فشل في الحصول على مجموع يؤهله للالتحاق بأي جامعة، فعمل بوظيفة حكومية تقليدية بشهادة الثانوية العامة. “عطية” (يحيى الفخراني) شاب أنقذت رحلته إلى الريف روحه من النمطية وأعادت لقلبه النبض. 

علاقتي بفيلم “خرج ولم يعد” (إخراج: محمد خان، سيناريو وحوار: عصام توفيق، اقتباسًا عن براعم الربيع لاتش إيه بيس)، بدأت وأنا في السادسة من عمري. أبي لم يكن ذلك الشخص القادر على الإفصاح عن مكنون قلبه لك، فهو لم يخبرنا قط بأنه يحبنا ولم يملِ علينا ما نفعله، ولم يوجهنا قط إلى الطريق القويم، ولكن بقصد أو دون كان يعطينا إشارات تغذي وجداننا وتظل في قلوبنا دليلاً. كانت إحدى تلك الإشارات تكمن في حرصه على مشاهدتنا أفلامًا تعلقت بها قلوبنا قبل عقولنا وأعيننا، وكان أحد هذه الأفلام “خرج ولم يعد”. كنّا نترك كل ما في أيدينا، فلا واجبات مدرسية ولا أعمال منزلية عند عرض هذا الفيلم، جميعنا مدعوون للتجمع حول شاشة التلفاز للمشاهدة. 

كان أبي يشبه كثيرًا “كمال بك عزيز” (فريد شوقي) شكلاً وروحًا. بسيط بتلقائية، محبًا للطعام، يأخذك معه في قصصه التي لا تنتهي في رحلات حول العالم، أنيق ببساطة، يحيا اليوم بيومه لا يعطي بالاً للغد، فهو قادم قادم ولا نستطيع مهما هرولنا أن نسبقه، بل بالكاد ندركه، فكان يدركه بهدوء وسكينة تجعل لكوب الشاي المسائي مذاقًا مختلفًا. 

كان ظهور “كمال بك عزيز” في حياة “عطية” طوق نجاة لم يطلبه، فهو غارق بكامل إرادته في صخب المدينة المزدحمة، بين منازل العشوائيات الآيلة للسقوط وكلاكسات السيارات ومكاتب المصالح الحكومية المتآكلة بفعل التراب والزمن، وفتاة أخفت جمالها تحت مساحيق التجميل وملابس متكلفة ومسكات العناية بالبشرة. 

قصد “عطية”، “كمال بك عزيز” من أجل بيع أرضه بالريف. هذه الأرض التي لم يقصدها من قبل، كان على عجلة من أمره، فقد ترك الكثير خلفه في المدينة، ولكنه لم يكن يعلم أنه بزيارته للريف سوف يشتري ولن يبيع، سوف يشتري عمرًا جديدًا بعد أن حسبه الجميع قد مات تحت أنقاض منزله الذي تصدَّع بفعل الزمن وانهار فور وصوله الريف.

في الريف تعلَّم عطية استنشاق الهواء النقي، الاستمتاع بالأكل والتأني في اتخاذ القرارات، والتأني حتى في عدم اتخاذها، وجد في أسرة “كمال بك عزيز” الذي جاب العالم ثم اختار المكوث في هدوء وسكينة ما تبقى من عمره في منزل ريفي متواضع، حلم الأسرة التي تمناها حقًا. ووجد في أسماء دلع بناته التي تشبه أسماء فواكهه في حديقة مزدهرة ثمرة ناضجة. وجد ابنته “خوخة” (ليلى علوي) فتاة أحلامه التي لم يكن يحلم بها من قبل.

هو لا ينكر أنه لم يكن سهلاً عليه أن يتأقلم مع حياة جديدة، وأن الاختلاف أصابه بآلام في المعدة، ولكنه فور ما أدرك الفارق خلع ملابسه القديمة الضيقة واستبدلها بملابس فضفاضة تشبهه أكثر.

يبيع أرضه لـ”كمال بك عزيز” ويركب سيارة متجهة إلى القاهرة، ولكن عندما يسمع صوت عدوية في جهاز الكاسيت في السيارة الأجرة يشعر أن صخب المدينة لم يسعفه حتى الوصول إليها، وبدأ في مطاردته من الآن. يرى فتاته تمشي في سكينة على الطريق ليدرك عند رؤيتها أن هذا ما يريد حقًا. يترك السيارة مسرعًا ليرافقها في طريقها غير عابئ بما ترك خلفه.

كلما شاهدت هذا الفيلم، خصوصًا في المشهد الذي تجمعت فيه الأسرة حول التلفاز تشاهده في هدوء، تذكرت أبي وتذكرت تجمُّعنا أمام شاشة التلفاز لمشاهدة هذا الفيلم، وتساءلت: متى سوف أحيا حياة أبي؟ متى سوف أختار فعل أشياء بسيطة خفيفة على قلبي مفرحة، تاركة لأجلها صخب السعي وراء القطيع؟

المقالة السابقةرحلة سعيدة
المقالة القادمةاليوم العالمي للإيدز.. زوايا مختلفة تناولتها الأعمال الفنية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا