“حمام الدار” الذي يغيب مثل أي شيء آخر

1335

 

نورا ناجي

 

من العنوان نعلم أننا أمام تجربة جديدة، رواية بمعايير خاصة، أحجية كما يصفها الكاتب سعود السنعوسي، في روايته الأخيرة “حمام الدار – أحجية ابن أزرق” وعلى القارئ المخلص، أن يتمسك بالكتاب ليقرأه على مرة واحدة، ثم يعيد قراءته متمهلاً في تفاصيل التفاصيل، ثم يعيد قراءته ليتفكر، ثم يعيد قراءته لتنكشف أمامه الدنيا، وليرى العالم بشكل مختلف.

 

ما الذي يطرأ على ذهن الكاتب عندما تثقله فكرة ما؟ عندما تتكوّن في عقله شخصية ما تطارده في يقظته وفي منامه، عندما يشعر بهذه الطاقة في عروقه تدفعه للكتابة؟ قد تكون الفكرة غير مكتملة، نص غير كامل، شخصية مبهمة لا يعرفها، تطارده بنظرات عينيها الحزينتين لسبب لا يدريه هو، تجلس أمامه على المكتب، تتمشى بجواره في طرقات البيت، تصحبه في مشاويره، تتناول معه الطعام في نفس الصحن، تحيله إلى مجنون يحادث نفسه، يشعر وكأنه لا يطيق جلده، حتى يجلس إلى أوراقه، يخرجها على الورق، حتى ولو لم يكن يعرف ما هو مستقبل هذه الشخصية؟ ما الذي سيحدث لها بعد أن ينتهي الحدث الوحيد الدائر في عقله؟

 

يحدث أن تمتلك شخصيات الرواية إرادتها الحرة، أيّ كاتب يعلم أن هناك لحظة بعينها يصبح هو فيها مجرد أداة للكتابة، تنساب الأفكار والكلمات وكأنه لا يعلم من أين تأتي، عند هذه اللحظة يعلم أن الرواية ستكتمل، وأنها لم تقبع في ركن الدرج السفلي، وعلى هذه الفكرة يلعب السنعوسي، الذي يتدخل في منتصف النص، بعد أن ينهي نصفه الأول “العهد القديم” الذي يرويه “عرزال ابن أزرق” بشكل يبدو وكأنه قصة طفولته الحزينة.

 

طفل وحيد، ينتظر حمام الدار الذي لا يغيب، ويتابع أفعى الدار التي لا تخون، على سطح البيت العربي القديم، مع والده القاسي، قسوة ربما تكون محتملة، كونه أبًا يربي طفلاً بلا أم، طفل تعوَّد على مراعاة سيدة غامضة لا نعرف ما هي صلة القرابة بينها وبينه، تجلس أسفل السلم لا يسمعها سواه، ويلاطف عنزة بيضاء جميلة، لا صديق له سواها، يسمع هديل الحمامة الأم تنوح على صغارها الذين ذهبوا بلا عودة، ويسأل، هل يحدث أن نبكي من الألم أيضًا؟ ثم يكبر لينوح هو كل يوم أمام المرآة كما الحمامة.. غرووغ غرووغ!

 

الحكاية الحزينة لا تفسر سر اكتئابه الواضح، ووحدته القاتلة التي تدفعه لمتابعة حمامة تحط على دكة النافذة، يدفعه المؤلف دفعًا للوقوف على دكة النافذة للانتحار، لكنه يتركه معلقًا، فالحكاية غير كافية، إنها بالفعل غير مكتملة، لأنها في الواقع مجرد أحجية، رموز غير منكشفة، الأمر الذي يجبر المؤلف على التدخل بعد الانتظار الطويل.

 

” الروائيون مرضى، ينفسون عن معاناتهم ويستزيدون بالكتابة تعويضًا لنقصٍ في نفوسهم.. أيَّ سلطةٍ تمنح كاتبكم المزعوم الحق بأن يكتبنا؟!”.

 

في الواقع المؤلف لم يتدخل، إنما توهَّم أنه فعل، لحظة تدخل المؤلف ما هي إلا مجرد طريقة لوصف ما يحدث للكاتب عندما يفقد سيطرته على شخصياته، فيمتلكون إرادتهم الحرة، ويصبحون قادرين على سرد أحداثهم بأنفسهم، على انكشاف الأقنعة، وعلى حل الأحاجي، وعلى الانطلاق بالقصة إلى منحنيات أخرى، تجعلها رواية أكثر تأثيرًا، وهذا ما حدث في النصف الثاني، “العهد الجديد” الذي يقصه “منوال ابن أزرق”، وفيه يبدأ الضباب في الانكشاف، لنعرف الفاجعة.. وليتنا لم نعرف.

“الحقيقة أنه لا توجد حقيقة”.

 

تتحول القصة تمامًا، ويظهر البيت أكثر ازدحامًا بالأشخاص، وأكثر غيابًا منهم في ذات الوقت، يتوه الصبي الصغير بينهم محاولاً معرفة سر غيابه عن الصورة العائلية التي تجمع بين أبيه وأشقائه الغائبين، الصورة التي تحتل مكان بصيرة أسفل السلم، لنعلم أنه لم يكن يحادث غيرها في الجزء الأول، إنه يتحدث مع إخوته الغائبين، وأبيه الذي يرفض ضمَّه إليهم، ومن هنا، يرفض الطفل مواجهة الحقيقة، ويكبر خائفًا من مواجهة البحر الذي أخذهم وذهب بهم بعيدًا، يظل خائفًا حتى بعد أن يتزوج وينجب، ويظل خائفًا حتى تحدث له مأساته الكبرى، يعجز عن حماية عائلته فيركض مبتعدًا، يظل يركض كالحمامة التي تطير مبتعدة عن فرخيها. الحقيقة أنه يركض مبتعدً كما ابتعدت أمه فيروز، وسمحت لنفسها بالوقوع في خطر لا يُغتفر، جعله يُحرَم من إخوته، ويبقى وحيدًا لا يعرف له هوية ولا نسبًا، فهل يستحق الموت في النهاية؟

 

يناقض البطل الحقيقة الوحيدة التي يصر عليها من بداية القصة، فحمام الدار في الواقع يغيب مثل أيّ شيء آخر في الدنيا، وأفعى الدار في الواقع تخون، مثل أيّ شخص يمر في حياتنا.

إنه يختصر هذه الحقيقة الفلسفية في نفسه، إنه يغيب عن عائلته وعن نفسه، يخون عائلته ويخون نفسه، إنه الحمامة والأفعى معًا، إنه الحقيقة واللغز، الأحجية وانكشافها.

“يصير الرحيل أخف وطأةً لو أوجد له مُسوِّغًا، مجانية الفقد تحيله جرحًا مفتوحًا في صورة سؤال”.

 

يترك لنا السنعوسي النهاية، فهو لا يستطيع أن يقرر، ولا بطله كذلك يستطيع، أما أنا فمنيت نفسي أن الحكاية كلها مجرد حكاية في عقل كاتب يجلس بجوار زوجته وطفليه الهانئين بلا مشكلات، الكتابة دوامة كبيرة ندخل فيها بإرادتنا الحرة فتجرفنا إلى أعماقها، والقراءة كذلك، لكنهما الاثنان فعل حب، نتكبد من أجلهما المشاق، ونتحمل من أجلهما الكثير.

 

 

المقالة السابقةهل نؤمن بإمكانية تحقيق أحلامنا؟
المقالة القادمة2017 عام الأحداث الكبيرة
روائية وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا