جيران الهنا

1048

أستيقظ على رنات متتالية لجرس البيت، أصحو مفزوعة وأنظر من العين السحرية لأجد سيدة ترتدي إسدالاً منزليًا وتقف واضحة ذراعها في خاصرتها متوعدة، تسترق السمع لوقع خطواتي ثم تفاجئني وأنا أنظر من العين السحرية قائلة “افتحي متخافيش أنا جارتك”.

 

منذ سكنت تلك العمارة وأنا أعرف أنه لا أحد هنا يهمه أمر الآخرين، أقول لزوجي ذات مرة “أنا خايفة لو حصلي حاجة هنا وإنت مش موجود وخبطت ع الجيران هيفتحوا يلاقوني بموت يقفلوا الباب تاني ف وشي”. 

 

منذ أن انتقلت من الإسكندرية وأنا لا أتعامل مع جيراني مطلقًا، لا أحد هنا يساعد الآخرين، لا أحد يدري بوجود الآخرين من الأساس، يرفضون التفاعل وكأنهم يعيشون في وحدات تبريد منفصلة، للدرجة التي جعلت جارنا الذي يسكن في الطابق الثالث يخبر صديقتي التي أتت لتزورنا بعد الزواج بأقل من شهر “لا مفيش عرسان جداد في العمارة هنا”.

 

تخبرني جارتي بنبرة عالية أنني أفسد لها الشبابيك بالمياه التي تنزل من شباكي أثناء التنظيف، أحاول أن أخبرها أنني كنت نائمة وأنني لم أنظف شبابيكي منذ سكنت الشقة، ترفض الإصغاء وتصر على كلماتها المستفزة، أفقد أعصابي وأثور وأتهمها أنها لا تريد أن تسمعني، تقريبًا طردتها من على باب بيتي، وشعرت بالكثير من الحزن.

 

أعود بالذاكرة للوراء قليلاً، قليلاً بما يعادل نصف عمري تقريبًا، أرى أمي تحضّر الرضعات لابنة جارتنا التي لا تجيد القراءة والكتابة ولا تعرف المكتوب على علبة اللبن الصناعي، ثم أرى نفسي أتربع على الأرض وحولي أختي والأختان الكبيرتان للرضيعة نلعب على سلم البيت، أرى جارتنا تنادي علينا أثناء وجود أمي في العمل لتطمئن على تناولنا الإفطار، ثم أراها في مشهد آخر تنادي على أمي لتهتف “مش عايزة حاجة م السوق؟”.

 

في زمن آخر، لا يبعد كثيرًا عن الزمن الذي يرن فيه زوجي جرس باب جارنا الذي يقطن الشقة المقابلة لنا ولا يرد، ثم يترك له ورقة على الباب “ستيكي نوت” يخبره فيها أنه يريد رقم صاحب البيت لأننا فقدناه ولا يرد الجار، وتختفي الورقة بعد قليل، كان هناك جيران آخرون أكثر إنسانية ويفتحون أبوابهم عندما نطرقها.

 

في زمن آخر، لا يبعد كثيرًا عن الزمن الذي أحيي فيه جاري وأنا صاعدة على السلالم فيستدير، كانت هناك بيوت تأكل من نفس الطعام، أمي كانت تجمع دجاجات الجارات وتضعها في فرننا لتشويها لهن لأنهن لا يعرفن الطريقة، كانت تحسب مع الجارة الحامل التوقيتات لتخبرها “هتولدي يوم كذا وهتقولي الدكتورة إيمان قالت”، لم تكن أمي دكتورة، فقط كانت المتعلمة الوحيدة بين الجارات وبالتالي لم يكنّ جميعًا في حاجة للتعليم، لأن “أم إنجي عارفة كل حاجة”.

 

في زمن آخر، يبعد عن زمن بيتي وزمن بيت أمي كثيرًا، كثيرًا بما يعادل عمر أمي التي تخطت الخمسين، كانت هناك جارة لجدتي، كانت هي أيضًا تسمى “أم أشرف” مثل جدتي بالضبط، كانت أم أشرف سيدة فقيرة، تثرثر مع جدتي كثيرًا وعندما عرفت أن أمي تحب البامية الويكا، كانت كلما طبختها تحضر لجدتي كوز بلاستيك مليء بالويكا ومعه قطعة دجاج “عشان إيمان بتحبها”. تتذكر أمي تلك الذكريات كثيرًا جدًا وتترحم على خالتي أم أشرف وعلى الكثير الذي فقدته عندما كبرت، ولم أكن أفهم هذا الحنين حتى أصبحت أنا أيضًا أترحّم على أيام طنط عزيزة التي تعرف كل أخبار الشارع ولا تفوتها شاردة أو واردة فيه.

 

في زمن آخر لا يبعد كثيرًا عن الزمن الذي أذهب فيه لبيت صديقتي وحدي وهي ليست بالداخل لظرف طارئ، أحاول فتح الباب بمفتاحها الذي تركته لي ويأبى الباب أن ينفتح، تراني جارتها أحاول المعافرة مع الباب ولا تحاول الاستفسار، لا يهمها إذا كنت سارقة أو لم أكن من أهل بيت جارتها، لم تحاول أن تعرف حتى من أنا، رمت نظرة عابرة ودخلت شقتها وتركتني أسطو على منزل صديقتي دون اكتراث، كان هناك جيران يقفزون من شرفتهم لشرفتنا عندما نست أمي المفتاح بالداخل معنا نحن الصغار والبوتجاز يعمل، قفز “أبو مصطفى” بين الشرفتين في الدور الثالث كي لا يتأذى الصغار وكي لا يضطرون لكسر الباب.

 

في زمن آخر كان الجيران موجودين دائمًا، يدفعون فواتير الكهرباء والماء للعمارة كلها ثم يحاسبون بعضهم فيما بعد، يتشاجرون ويقسمون بأغلظ الأيمان ألا تكلم إحداهن الأخرى مرة ثانية، ثم يشربون الشاي معًا في الشرفات داخل الشارع الضيق.

 

في زمن آخر كانت البيوت بأمان حتى وأصحابها مسافرون أو مرضى، فأصبحت الآن منفصلة تمامًا لا يعرف أحدنا هل يسكن في الطابق الرابع أحد أم أن الشقة مهجورة، لم يكترث أحد للمساعدة في حمل عفش العروس الجديدة ولا تنطلق زغرودة واحدة لتحيتها.

 

كبرت وكبر الزمن وشاب، ولم يعد يقوى على تحمل ضجيج الصحبة المطمئنة ولا تيارات الهواء بين البيوت المفتوحة على بعضها.

 

أفتقد أنا كل ما كان يحدث قديمًا، بكل تدخلات النساء في شؤون بعضهن والغيرة المتبادلة والمحبة المشوبة بالشجارات العابرة.

 

أفتقد أن أشعر بأمان وينتباني هاجس سخيف كلما تركت البيت أنا وزوجي أننا سوف نعود لنجد كارثة لن يكلف أحدهم نفسه أن يتصل بنا ليحذرنا منها أو يستدعينا لننقذ ما يمكن إنقاذه.

 

أفتقد في بيتي الجديد ثرثرة النساء، ولا أسمع سوى صراخ الجارة على ابنتها من شباك المطبخ، وأخاف أن يحدث لي شيء ما وأنا وحدي ولا أجد من يقول لي لا تقلقي سوف نتصل بزوجك ولن نتركك وحدك.

 

أفتقد في بيتي الجديد جيران الهنا.

المقالة السابقةوقد لا يكفي الورد يا إبراهيم
المقالة القادمةشكرًا يا الله.. لأنك الله
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا