تأشيرة دخول إلى عالم الرجال

643

في حياة أي فتاة علاقة إنسانية غريبة جدًا، تعتمد بشكل أساسي على الاهتمام المبالغ فيه غير المُبَرَر، اهتمام يحاسبها على ما تفعل لدرجة تجعلها تحتاط دائمًا لتصرفاتها، تنتبه لكل من يزورها في بيتها، لمن يوصل لمنزلها ماءً، لموعد عودتها للمنزل، وإلا كان لها نصيب لا بأس به من التقريع، وهذه العلاقة ليست علاقتها بأبيها أو أخيها الأكبر كما من المتوقع أن يخطر في أذهاننا عند قراءتنا لهذا الوصف، بل هي علاقتها بالبواب.

 

البواب هو أحد أهم أركان حياة الفتاة منا، وتصرفاتنا في حياتنا العادية هي دائمًا استجابات لعلاقتنا به، وإجاباتنا على أسئلته الدائمة بتبريرات مختلفة ما هي إلا وسيلة لتفادي نظراته اللائمة، ولذلك الاتهام الخفي في لمعة عينيه وقت أن يجد شابًا يوصلنا للمنزل، رغم أن هذا الشاب في النهاية هو سائق يعمل لشركة من شركات التوصيل الخاصة. نعيش حياة كاملة، بدايةً من سن الـ١٥ وحتى يحين موعد انتقال البنت من هذا المنزل لأي سببٍ كان، ونحن نحاول أن نتجنب أن نثير لديه أي شكوك حول سمعتنا التي تشبه الصيني، فنغض البصر في الداخلة والخارجة، نعود للمنزل مبكرًا، وننزل من السيارة الملاكي التي توصلنا قبل منزلنا بشارع.

 

كانت علاقتي المتوترة بـ”أبو أحمد” البواب هي أول شرارة داعبت بداخلي أفكارًا من نوعية “يا بخت الرجالة!”، حيث أرى “محمد” جاري اللطيف الذي في مثل عمري يخرج الساعة ١١ مساءً من منزله وهو الوقت الذي أعود فيه غالبًا، فنتلاقى لنتبادل التحية عند باب الأسانسير في أغلب الأحيان، ليبش “أبو أحمد” في وجهه قائلاً “لمَّعتلك الموتوسيكل يا بيه”، ويكشر في وجهي قائلاً “لساكي بترجعي وخري!”، وكان هذا يحيرني بحق؛ ما المختلف في عودتي ليلاً عن خروج “محمد” في نفس الوقت، مع أن “محمد” يخرج ليلقى أصدقاءه على القهوة المقابلة لشارعنا، بينما أعود أنا من شيفتات ليلية منهكة بعد أن تقدمت بطلب لمديري في العمل لأن أعمل في الشيفتات الليلية ليتسنى لي متابعة كتابة رسالتي الماجستير وعرضها على الدكتور المشرف أو الذهاب للمكتبة للبحث عن مراجع، حتى أستطيع أن أرتاح في الإجازة الأسبوعية ولا أخرج من السرير! وقتها فحسب، أيقنت أنه لكان الموضوع أكثر سهولة، فقط لو أنني رجل!

***

 

أنظر إلى المرآة وأمشط شعري، ثم ألتفت لأمى قائلةً “ماما.. سأصبغ شعري باللون اللوزي”، لتقوم الدنيا ولا تقعد، حيث ترفض أمي رفضًا قاطعًا، مع التمسُك بتبريرات عجيبة تتلخص في أنني محجبة فلا فائدة من تغيير لونه؛ لن يراه أحد، فأقول أنا لا أفعل هذا للناس وإنما لنفسي، فتقول هذه الكلمة السحرية ظنًا منها أنها تحل كل المشكلات “أما تتجوزي ابقي اعمليه”.

 

لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فقد امتد لـ”ابقي صيفي مع جوزك”، “ابقي سافري مع جوزك”، وأي شيء يتعلق بحرية الحركة ارتبط بقوة بوجود رجل، ربما لأن أمي تخاف عليّ خوفًا غير مبرر، أو ربما لأنها لا تثق بالمحيطين بي وبالظروف، لكن في النهاية يستطيع أصدقائي الرجال تقرير “طلعة” للساحل الساعة الثانية صباحًا، ليُحشروا معًا في سيارة أحدهم، ويذهبون ليومين “بلياليهم”، ويعودون “فريش” من الرحلة السريعة، متخلصين من الضغط المنزلي والأسري والعملي والدراسي، كاسرين لروتين حياتهم، قادرين على العمل والإنتاج بنشاط، بينما أنا أحصل على “تان” بانتظار الميكروباص في قيظ أغسطس! وقتها فحسب، أيقنت أنه لكان الموضوع أكثر سهولة، فقط لو أنني رجل!

***

 

يحتاج كل منا للترويح عن نفسه بأبسط الوسائل الممكنة، خصوصًا في ظل الظروف المادية التي تجعلنا ننفق مرتباتنا بأقصى حد عند العاشر من كل شهر، نحتاج إلى أشياء لا تُكلِفنا الكثير من المادة، لربما تظنون أن هذا من الأشياء السهلة طبعًا، لكن في مجتمع يمتلئ بالكلاكيع، الأمر ليس بهذه السهولة.

 

من يظن أن الفتيات لا يعرفن شيئًا عن الجلوس على القهوة فهو مُخطِئ تمامًا، فنحن نستطيع -في أغلب الأحيان- أن نخبرك بالكثير عنها، لكننا نحاول أن نُخبِئ هذه التفاصيل من حياتنا، بسبب النظرة التي تواجهها أي بنت “بتقعد على قهوة”، فهي غالبًا مسترجلة أو سيئة السمعة، ذلك لأن المجتمع يفرض على البنات أن يكُن “كيوت” ولذلك من الطبيعي ألا يجلسن إلا في مقاهي “كيوت” مثلهن، فيأتي عالم الكافيهات، وهي مقاهٍ ذات ديكور فظيع منغلقة على ذاتها، تُعِد كوب القهوة بخمسين جنيهًا للكوب على أقل تقدير، وهو ما يضطر الفتيات إلى صرف مبالغ خرافية في محاولات الترفيه عن النفس، في حين يستطيع الرجل بعشرين جنيه تدخين الأرجيلة وشرب كوب من الشاي والاستمتاع بالجلوس في الفراغ المُطلَق، أو حتى الوقوف بجانب كشك السجائر الصغير الموازي لشارع بيته مع أصدقائه، ليشرب البيبسي ويدخن سيجارتين، وهكذا أصبح اليوم رائعًا، أما نحن فلا نمتلك مثل هذه الرفاهية، إما ستاربكس، أو لا شيء، ولا عايزة تفضحينا؟!

***

 

نعم، ستكون حياتنا أكثر سهولة من خلال امتيازات كثيرة ممنوحة للرجال، تجعل حياتهم أخف وزنًا في مجتمع يُثقِل كاهل جميع الأطراف بأوزانه المُدمِرة لعاتق الإنسان، نحن نعلم جيدًا كنساء العوائق الموضوعة على الرجال، من تنميطات اجتماعية يجب أن يمتثل لها الرجل وإلا فقد امتياز كونه رجلاً أصلاً، ونحن بالتأكيد لا نتنصل من أنوثتنا بأي شكل، على العكس، إنما فقط نقول إن السير في الطريق بدون بذل أي مجهود نفسي وذهني لمحاولة تحاشي التحرشات بالنظر أو اللفظ أو اللمس، وحرية الحركة والسفر وامتلاك حق الاختيار وحرية الوقوع في الخطأ، والقدرة على إثبات الذات بدون الحاجة لبذل مجهود مضاعف في العمل، أو اتخاذ قرارات بتأجيل الزواج والإنجاب، أو حتى أبسط الأشياء بالجلوس على المقهى أو الوقوف بجانب الكشك ليلاً استمتاعًا، هي من المحرمات للفتيات، برغم أنها أشياء كفلها ناموس الكون للنساء والرجال إلا أننا لا نستطيع استخدام هذه الحقوق، لذا، أيقنت بحاجتنا إلى تأشيرة دخول لعالم الرجال، وإنه لكان الموضوع أكثر سهولة، لو أننا فقط رجال!

المقالة السابقةأنا أم مثالية
المقالة القادمةأنا وشغفي
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا