بيت مفتاحه معي وحدي

800

الشهر الماضي طلقني زوجي.. للمرة الثالثة.

الشهر الماضي صرت وحيدة تمامًا.. كورقة ذابلة وقعت من شجرة خريفية ولم تصل للأرض بعد.

الشهر الماضي انقطعت كل صِلتي بحياتي الماضية، وصار لزامًا عليَّ أن أبدأ من جديد.

كطفل خرج للتوِّ من رحم أمه، خرجتُ من بيتي.

وكطفل يعلم أن لا أمل له في العودة لأمان الرحم، كنت أعلم أن أملي قد انقطع.

بعينين مغرورقتين بالدموع وجسد لا أتحكم في حركته تمامًا، ولغة لا تطاوعني لوصف ما حدث، كان عليَّ أن أبدأ من جديد. كان عليَّ أن أتعلم كيف أحيا.. كيف أتحرك.. كيف أخلق حياة وطقوسًا كافية لملء ساعات يوم لا تنتهي.. كيف لا أموت بردًا وذعرًا وفزعًا ووحدة.

في غرفة مُغلَقة بلا نوافذ ولا أبواب كنت أرتجف بالساعات، وأنا أتساءل كيف ومن أين عليَّ أن أبدأ.. كيف ستبدأ الحياة هنا بعد أن انقطعت كل سبلي لهناك.

أنظر للأرض الطينية التي أقف عليها بالساعات، وأتخيل سجادة خضراء ومنضدة صغيرة عليها كتابان وكوب به بقايا قهوة. أنظر للحائط العاري وأتخيل مكتبة جدارية وتلفاز، وربما أصيص زرع صغير يستطيع أن يقاوم حاجته للشمس ويستطيع أن يحيا في العتمة مثلي. أنظر للمطبخ المُهدَّم وأتخيله نابضًا بالحياة، تفوح منه رائحة طعام ساخن لن أستطيع تناوله، لأن قلبي الحزين مرر طعم كل شيء بفمي.

أيام طويلة مرت عليَّ وأنا فقط أنظر لساعة حائط مُلقاة على الأرض، وأحصي المار فوق جسدي من ثوانيها ودقائقها. لا أنام، وإن غفوت أستيقظ صارخة من الكوابيس التي تلتهم ليلي، كما تلتهم نوبات الفزع والذعر وضيق التنفس نهاري.

لكن كل هذا كان يجب أن ينتهي في لحظة ما، عندما نظرت حولي ولم أجد إلا الخراب والبرودة ونوبات الفزع قررت أن أنهي كل هذا، تحاملت على جسدي الجائع الضعيف وقررت أن أخرج لأشتري طعامًا. أمسكت بالمقشة وبدأت في إزالة كل الأتربة التي تعيق تنفسي، أحضرت عُمَّالاً وبدأت أصدر التعليمات، قطعت عشرات المشاوير لمِحال مستلزمات السباكة وأدوات الكهرباء.

كنت للمرة الأولى أفعل كل شيء وحدي.. وحدي تمامًا وبلا أمل يحركني، كان اليأس مُرًّا، لكنه كان مريحًا،

حررني اليأس من الخوف والأمل والترقب والانتظار. فما وجب عليَّ سوى الحركة..

وتحركت..

وقفت وسط العمال.. حملت أثقالاً من الرمل وعبوات السيراميك وأمتار من الأسلاك. يومًا بعد يوم كانت ملامح عملي تتضح، كنت أرى الحائط الأسمنتي العاري يكتسب لونًا أبيض، كنت أرى أسلاكًا تمتد ولمبات تنير العتمة، كنت أرى حفرة بلا ملامح تتحول لحمام صغير دافئ، كنت أرى المستطيل القبيح يتحول لمطبخ له ملامحه وخصوصيته.

كنت أرى عمل يدي وانتصاب ظهري وقوتي غير المسلوبة تُحوِّل المقبرة الخربة التي أُلقِيت فيها إلى بيت دافئ له باب مفتاحه معي وحدي. بدأت باندهاش طفل يجرب كل شيء، لأول مرة أجرب إمكانيات بيتي، وبدأت أحصي مرَّاتي الأولى..

أول مرة أنير المصباح الجديد.

أول مرة أشتري بقالة.

أول مرة أطبخ طعامًا حقيقيًا ساخنًا.

أول مرة أفتح الصنبور فينزل الماء على يدي ساخنًا.

أول مرة أغتسل فينزل الماء من على جسدي حاملاً مرارة التجربة والذكرى.

أول مرة أكتب.

أول مرة أقرأ.

أول مرة أشاهد فيلمًا أو حلقة من مسلسل.

كنت أندهش تمامًا كأنها المرة الأولى في حياتي كلها التي أفعل فيها شيئًا، وأجري على صديقاتي لأحكي لهن كيف أنني اليوم أكلت أو شاهدت فيلمًا أو حتى غسلت صحنًا.

كنت أجد كل المحبة والدعم، فأحمد الله على الحب غير المشروط.

واليوم أقف على قدمي منتصبة مرفوعة الرأس، مزهوة بقوتي وشجاعتي، وأنا أعرف تمامًا أنني لأول مرة أمتلك بيتًا مفتاحه معي وحدي، وأنني للمرة الأولى منذ شهور مضت تخلَّصت من عقدة الذنب التي أثقلت كاهلي، وأنني سوف أنام آمنة تمامًا.

بلا خوف.

ولا دموع.

ولا ألم.

ولا ندم.

المقالة السابقةالنجاح في الولا حاجة
المقالة القادمة“سابع جار”.. عندما نخاف النظر في المرآة

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا