بناءُ البيت وترويض الدببة الصغيرة

997

هديل عبد السلام

كنتُ قد عاهدتُ نفسي ألّا أكتُبَ عن الزواج إلا بعد مرور خمسة أعوامٍ على الأقل على زواجي، قاومت كتابة تدوينة رومانسية حالمة في الأيام الأولى بعد شهر العسل، وقاومت كتابة أخرى ثائرة وغاضبة في منتصف العام، وقاومت كتابة تدوينةٍ توثيقية منذُ شهرين في الذكرى الأولى لزواجي.

 

لا أَعْلَمُ لماذا أكتب هذه التدوينة الآن، لكنّي أرى التوقيت مناسبًا. مع بداية العام الجديد وإتمامي الثلاثين وظروف تباعد المسافات بيني وبينَ رفيقي.

 

بعدَ انتهاء الـ”هاني مون” وعودتي للمنزل للمرة الأولى في مدينةٍ جديدة، منزلٌ لا أعرفه ولَم أجهّزه بنفسي، أثاث اختارته شركةٌ ما ولَم أختر منه شيئًا، ستائر لا يعجبني لونها، وثلاجة فارغة، كل شَيْءٍ غريب وغير مألوف بالمرة، وضعنا حقائبنا وفاجأني زوجي أنه سوف يذهب الآن وحالاً إلى العمل، ساعتين فقط ويعود، لسببٍ لم أحتمل الفكرة، وحاول هو تهدئتي قبل أن يغادر، فكّرت “انتهى شهر العسل.. أنا الآن في أرض الواقع”.

 

في اليوم التالي ذهبنا لشراء بعض الاحتياجات من السوبر ماركت، الآن يحقُّ لي أن أختار ما يناسبني، وقفنا أمام أرفف الأطباق ساعةً أو أقل، لاختيار طبقين فقط، سألته مرارًا “طيب ده عاجبك؟” وهو يومئ برأسه أنه سيوافق على اختياري أيًّا كان، وأنا أرفض قبول الفكرة، إلى أن استسلمت في النهاية واخترت طبقين لم أكُن واثقةً منهما بما فيه الكفاية، لأجد أنه يعترض ويُبدي رأيًا مغايرًا وسط دهشتي. كلانا كنّا نخطو خطواتنا الأولى في تعلّم المشاركة، كلانا كان يحبُّ أشياءه الخاصة جدًا ويعتز بها ولا يحب مشاركتها، كلانا لا زال على أعتاب بناء شَيْءٍ مشتركٍ لم يكن له وجود.

 

وقتها شعرت أنني أفضّلُ هذا الواقع على مرحلة شهر العسل التي انقضت. أفضّلُ ما نحن عليه من تخبّطٍ، وكنت أعرف كم نحن مستجدِين هنا، وكم نحتاج للوقت والطاقة.

قضينا ساعاتٍ في السوبر ماركت قبل أن نعودَ إلى المنزل محمّلين بالأكياس الممتلئة بأشياءٍ تخصّنا، أشياءٌ سنتعلّم مشاركتها.

 

لماذا الواقع كان أفضل بالنسبة لي من شهر العسل؟!

يبدأ الأمر وينتهي عند التواصل، في هذا الواقع يمكن أن نقف أمام أرفف الأطباق ساعة أو أكثر لنصل إلى حلٍّ يناسب الطرفين، لدينا كل الوقت في العالم، أما في شهر العسل فكل شَيْءٍ يمكن أن يخلق أي نوعٍ من الخلاف كان يمكن تأجيله إلى الأسبوع القادم، حين نعود إلى الواقع.

 

التواصل هو البنية الأساسية للزواج، والتواصل ليس شرطًا أن يكون جلسةً مطوّلةً على طاولة السفرة لحل مشكلة ما أو وضع خطة مستقبلية طويلة المدى، التواصل يمكن أن يكون في “ممكن تغسل المواعين؟ إيه رأيك في الطقم ده؟” نظنّها مجرد أسئلة عابرة وهي في الواقع تحمل في عمقها بُعدًا آخر، تحمل في عمقها أنني أحتاجُ مساعدتك، وأهتم لرأيك وأريدك أن تراني جميلة، وأريدُ أن نكون معًا الآن وغدًا.

 

أحيانًا ننشغل بالسطح عن العمق عن غير قصد، ننشغل بالأطباق، بمشكلات السباكة، بالخلاف على ميزانية المنزل والمصاريف، بالخطط المستقبلية والقلق على القادم، لكن تحت هذه القشرة السطحية، أجدُ أننا طول الوقت نسألُ نفس الأسئلة، هل نحن معًا في مواجهة كل شيء؟ هل تختارني أنا بالذات في كل مرة؟

 

الزواج ليس شهر عسل، الزواج أشبه بموقع بناء، ليس دائمًا العمل فيه سهلاً، أحيانًا سنحتاج لستراتٍ واقية أو خوذاتٍ تتحمّل الضغط، لن تتوفّر كل الخامات طوال الوقت، أحيانًا سنضطر للتعامل والاستمرار بما هو متوفّر، لكنه في النهاية عملٌ مقدّس، وعملٌ يومي وبدوامٍ كامل وفرصة دائمة لخلق أرض صلبة ومشتركة يمكننا الرجوع إليها وقت الزلازل.

 

في الأشهر الأولى من زواجي، كنّا نضطر للخروج من المنزل كثيرًا، ربما أكثر من اللازم، حتى قررت أن هذا لا يجب أن يحدث، صرنا نقضي أوقاتًا أكثر في المنزل، اشتدّت خلافاتنا، صرنا نتشاجر كثيرًا، وعلى فتراتٍ متقاربة وعلى أشياء تافهة للغاية، بعد مرور هذه الفترة كان ما خلَصتُ إليه هو أنه لا بأس أبدًا في بداية الزواج أن تقضيا وقتًا أطول معًا، في منزلكما، في المقهى، بعيدًا عن الناس، وحدكما تمامًا ودون مشتتات، ليس بداعي الرومانسية والحب المفرط، لكن حين تقضيان وقتًا أطول معًا، يعطيكما الوقت فرصة أكبر للتواصل، لفتح جميع الملفّات، ولترويض الدببة الصغيرة التي تتقافز حولكما قبل أن تكبر وتملأ كل حيّزٍ فارغ فتدوسكما وتهرس علاقتكما تحت أقدامها.

 

في الأشهر الأولى تعرّفت على الدببة الصغيرة، لم أكُن أعرف كيفية ترويضها ولكنني تعلّمتُ ذلك مع الوقت، بالتجربة، وبالكثير من الأخطاء الفادحة، وبساعاتٍ من البكاء، وبأبوابٍ مغلقة، وجلسات حديثٍ مطوّلة، بتراجعاتٍ عن المواقف أو إصرار عليها، بالاعتذار والاعتراف بالخطأ وبالعفو والمسامحة. تعلّمتُ كيف يمكن أن نُديرَ خلافاتنا بشكلٍ أفضل، ولا زلت أتعلّم، وكادت الدببة أن تجرحني مرارًا.

 

الخلافات قد تمتصُّ السعادة من الحياة مؤقتًا، قد تنشرُ روحًا من الإحباط مؤقتًا، لكنها حتمًا تساعدنا في ترتيب البيت، في ترتيب حياتنا ودواخلنا، في الوصول إلى جذور المشكلات لمحاولة حلّها، فكنس المشكلات وإخفائها تحت السجادة لن يُجدي نفعًا أبدًا.

 

بالوقت نتعلّم كيف ننظر في عين بعضنا لمواجهة الخذلان، لأننا يمكن أن يخذل أحدنا الآخر في أي وقت، ولذا يجب أن نتعلّم كيف نتسامح ونعفو، العفو عن الأخطاء له قوة سحرية في تدعيم بناء الزواج وجعله يتحمّل رياح الخذلان والخطأ والتقصير.

 

ماذا تعلّمتُ في السنة الأولى من الزواج؟

تعلّمتُ أن أحاول طوال الوقت ترويض الدببة الصغيرة، هذا ما يفعله كلانا، نروّض خلافاتنا الصغيرة، هذه الدببة التي يمكن أن تدهسنا، علينا ترويضها حتى لا تفعل ذلك حين تكبر، نحن نعرف الدببة الصغيرة في حياتنا واحدًا واحدًا، ونعرف خطورة كلٍّ منها، هو يعرف قلقي الدائم مثلاً وأنه أكثر الدببة شراسة، وأنا أعرف عصبيته، كلانا نعرف الدببة ونتواصل طوال الوقت لأجل ترويضها.

 

كل يومٍ هو يومٌ مناسبٌ للترويض، لكن، ستجد دائمًا في نفسك ذلك التكاسل، والإغراء بعدم ترويض الدببة اليوم، بتركها تحوم حولنا، ربما لا تؤذينا، لماذا لا أدع قلقي حُرًا اليوم؟ لماذا لا أطلق عصبيتي في الأرجاء اليوم؟ لماذا لا نتغاضى عن الأشياء الصغيرة جدًا؟ لكن تركُ الدببة الصغيرة دون الحديث عنها ومحاولة ترويضها، سيعطيها الفرصة لتكبر وتصيرُ عملاقةً ولا يمكن السيطرة عليها.

 

بعد عامٍ على الزواج أدركت أن هذه الدببة جزءٌ منا، في بيتنا، هو وأنا والدببة الصغيرة، كلانا دخل إلى هذا البيت وهو يجُرّ خلفه دببة صغيرة متقافزة، وغير مروّضة، وليست أليفة، لكنها قابلة للترويض، وقابلة للتآلف معها.

 

يهتمُّ الناس كثيرًا باختيار كلّ قطعةٍ في منزلهم، اهتمامٌ يفوق بمراحل اهتمامهم بمعرفة الدببة التي يُقبِلون على ترويضها. لم أختر شيئًا في أول شقة سكنتها، وفِي المرة الثانية قررت تغيير لون حائطٍ بعينه لأن اللون الجديد يُشعرني بالأُلفة، أحاول طوال الوقت أن أتخلّى عن تعلّقي بالأماكن لأن الحياة رحلةٌ مستمرة في النهاية. صرت أعرف أنني لا أُحبُّ البيوت الكبيرة، والمساحات الواسعة، البيوت الصغيرة جدًا صارت أقرب إلى قلبي، مجهود أقل وألفةٌ أكثر.

 

في زواجي، لم يكن الأثاثُ ثابتًا ولا العنوان ثابتًا، فصارت الثوابت كلها في دواخلنا، في علاقتنا نفسها، تلك التي نستثمرُ فيها طاقتنا النفسية، ومجهودنا وعملنا، نلوّنها كما نختار، نعدّلُ في شكل البناء، نطوّره ونزيده أُلفةً وأمانًا، حتى لا نعودُ نشعرُ بالغرابة أو الغربة أبدًا مهما اختلفت بِنَا الأماكن والبلاد.

 

المقالة السابقةلأجل هذا رواتب النساء أقل
المقالة القادمةمي وأحمد.. أكبر الخيانات الخذلان
كاتبات

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا