بطيخة وجورنال

583

بقلم/ وسام الأهواني

 

أذكر جيدًا محادثاتي ومناقشاتي قديمًا مع صديقاتي، أذكر كم كنا نسخر من الزواج بشكل عام والزواج التقليدي على وجه الخصوص.

 

السخرية من تلك الزوجة التي تودع زوجها وأبناءها صباحًا بينما صوت أغنية “بالسلامة يا حبيبي بالسلامة” تطل علينا من الراديو ككل يوم، بينما تقوم الزوجة بمهامها المنزلية مبتسمة وهي تستمع لنصائح برنامج إلى ربات البيوت، سخرنا من تلك الزيارات التي كانت قد تقوم بها الزوجة مع جيرانها عندما تحين الفرصة ليحتسين القهوة ويتجاذبن أطراف الحديث. كنا نطلق على هذه الجلسات “قعدة ستات فاضية”، بالرغم من أننا نفعل نفس الشيء!

 

سخرنا أيضًا من لمة الأسرة حول طاولة الطعام لتناول طعام الغداء معًا، بل كان شكل الزوج العائد من عمله وهو يحمل بطيخة ويتأبط جريدته شيئًا مثيرًا للضحك والغثيان في نفس الوقت. كان ما سبق هو عبارة عن تصور لشكل الحياه الروتينية المملة من وجهة نظرنا، حياه ثابتة مستقرة معروف بدايتها ونهايتها لا تشوبها أي حركة ولا تتخللها مغامرات حياة رتيبة.

 

مرت السنين ووجدنا أنفسنا وقد استبدلنا تلك الحياة المملة المستقرة الروتينية بحياة أخرى مملة روتينية غير مستقرة، وأيضًا مرهقة، لم يعد هناك زوجة تودع زوجها وأبناءها في الصباح، بل أصبحت تركض خلف الأتوبيس أو تجاهد لتجد لسيارتها مكانًا في أزقة القاهرة المكتظة بجاراتها العزيزات اللاتي خرجن من منازلهن في سقيع الشتاء وقيظ الصيف لتوصيل الأبناء أو حتى للسعي وراء الطموح المزعوم، لم يعد هناك “بالسلامة يا حبيبي” بل أصبح هناك مشاحنات صباحية حول من سيكون المسؤول عن توصيل الأبناء إلى التمرين أو من سيأخذ السيارة إلى الميكانيكي.

 

فقدنا تناول الطعام معًا على مائدة واحدة، فقدنا أحد أهم الثوابت عند المصريين، وهو الشاي بعد الغداء. أصبح كل فرد يأكل وحده، وكل فرد له وجبات مخصصة، فهذا نباتي وهذا يتبع حمية خاصة وتلك تحب الوجبات السريعة، وضاعت فقرة القيلولة إلى الأبد، وهو الأسوء على الإطلاق.

 

وهذا الفارس المغوار الذي كان يقتحم الأتوبيس بكل شجاعة محافظة على اتزانه وثباته الانفعالي وسط الزحام، بينما يحمل بطيخة نمساوي ضخمة ويمني نفسه بتناولها مثلجة وهو يقرأ جريدته المفضلة، لم يعد له وجود حاليًا، فقد أصبح لدينا شاب عصبي يحمل موبايل تاتش أحدث موديل ويقرأ المقالات والتعليقات من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ويغضب ويحزن ويهنئ ويغار في نفس الوقت، معزول اجتماعيا ونفسيًا لا يتحدث مع أحد ولا يحب الجرائد أو الكتب ولا يوجد لديه شهية لتناول الفاكهة.

 

فما الذي فعلناه بأنفسنا؟ هل هو محاولة فعل ضد الشيء بشكل متطرف، مجرد محاولة للهروب من كل ما انتُقِد قديمًا حتى وقعنا في فخ آخر؟ ملل ورتابة مرهقة ومؤذيه نفسيًا وجسديًا، أم هو عقاب القدر لنا بسبب السخرية من الأجيال السابقة؟

 

وأصبحت جلساتي مع صديقاتي -إذا جلسنا- عبارة عن شكوى وتذمر، واشتياق لكل ما تهربنا منه وأنكرناه طوال السنوات السابقة، بل وكثيرًا ما نحلم باقتناء آلة الزمن والعودة حيث كان الناس يتواصلون بشكل حقيقي وليس افتراضي، ويستمعون إلى نفس الأغنية كل صباح، ويأكلون نفس البطيخة كل مساء، يجلسون مع أبنائهم وقتًا أطول ويتناولون وجباتهم معًا ولا ينزعجون من زيارات الآخرين لأنهم ليس لديهم وقت لذلك.

 

حين كان البشر يحبون البشر ويودون أقاربهم ويعطفون على الصغير ويتكلمون معه ويحكون عن ذكرياتهم -فهكذا تتناقل الخبرات وليس عن طريق الإنترنت- يعملون على تقويم الجانب الإنساني في ذويهم بشكل يومي دون إدراج الفعل تحت مسمى، فهي عادة تلقائية لا تحتاج إلى “لايف كوتش” كما يدعون حاليًا! فقد أصبحنا في حاجة إلى مدرب ليدربنا على الحياة.

أظن أنه حان الوقت لكتابة قائمة بكل ما فقدناه وتحديد طرق استرجاعه، لعلنا نتوازن قليلاً.

نفس الأغنية كل صباح ونفس البطيخة كل مساء

 

 

 

المقالة السابقة3 وصفات لمقاومة الاكتئاب وتحسين الحالة المزاجية
المقالة القادمة7 نصائح لتخصيب تربة الأوقات المالحة
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا