بالونة هيليوم

1014

 

بقلم/ سلمى حسين

 

في عيد ميلادي الخامس، صحيت من النوم على صوت أمي وهي داخلة عليّ الأوضة وإيديها مخدلة والدم ناطط فيها بسبب صندوق كبير شايلاه في إيديها، مش واضح منه إلا إنه هدية وخلاص، بدون أي تفاصيل تانية ممكن تغششك أو تقولك إيه اللي ممكن يكون جواه.. عينيا كانت لسة مقفولة نص قافلة، لكن الغريبة إن بوقي كان عكسها تمامًا، مفتوح لآخر آخره، ومالياه ضحكة كبيرة، عرفت دلوقتي بعد ما كبرت إنها كانت من قلبي بجد.

 

التعب اللي كان باين على وشها مكانش ممكن حتى العيل الصغير ميلاحظوش، لكن الأكيد إن ضحكتها كانت أكبر من ضحكتي بكتير، حطت الصندوق ع الأرض وكأن حمل الدنيا انزاح عن ضهرها واستعدت للمفاجأة، مع إنها هي اللي عاملاهالي، لكن الست دي كان فيها حاجة غريبة، حاجة بتقربك منها زي المغناطيس، قادرة تحط نفسها مكانك وتبقى عيلة من دورك، مع إنها يمكن تكون ناسية لما كانت قدك كانت عاملة إزاي.

 

وعشان كده فضلت مدياني إحساس المغامرة اللي هنكتشفها سوا، والصندوق اللي لازم نفتحه عشان نعرف إيه جواه، ومع إنها هي اللي حطته بإيديها لكن عمر ما الإحساس اللي بتوصلهولي ما كان مش صادق.. هي الصديق اللي عمره ما تظاهر بإنه صديق لأنه كان بيشغل باله أكتر بإنه يكونه.

 

وفتحته عشان ألاقي أكبر أمنية في حياتي في الوقت ده.. عجلة بسنادات.

معقول؟! ليّ أنا لوحدي؟!

 

لكن جدي كان هو الهدية الأكبر، بعد ما قالتلي إننا رايحينله بالليل عشان نقضي معاه عيد ميلادي، يمكن لأنها عارفة إني لسبب مجهول بحب جدي لشيء تاني أكبر وأبعد من كوني لازم أحبه بس لأني حفيده؟

أو يمكن لأنها شايفة إيمان جدي بإني هبقى حاجة مش عادية لما أكبر، رغم إن عمري انهارده بقى خمس سنين بس ف الدنيا دي؟

 

وصلنا!

جدى بيته شبهه، بيطل ع السما، شبابيكه كبيرة، قدامه خضرة وبراح، دافي.. بيت واسع، كبير زي قلبه.

جريت عليه عشان آخد الحضن بتاع كل مرة، بس حتى المرة دي كان أجمل من كل مرة.. يمكن ده كان جزء م الهدية؟ تقريبًا، جايز لأني انهارده مش فاكر غير الحضن ده بالذات بكل تفصيلة، رغم إنه كان من 35 سنة؟

مش عارف.

 

بعد حضن طويل اعترفلي إن بسبب ظروف مرضه ملحقش يجيبلي هدية، ملحقش غير إنه يجيب بالونة.

– بالونة يا جدو؟

– يا حبيبي دي جميلة قوي، طب شوف حتى!

* وبالتصوير البطيء شوفت المشهد كأنه فيلم سيما، وهو بيطلع البالونة وبيديهالي.

– الله! بس دي مش بالونة! مفيش بالونة مش بتقع كده وواقفة في الهوا، طب إزاي؟ دي مش زي اللي بلعب بيها مع يوسف وآدم في الحضانة!

ضحك جدو وقالي: دي مش بالونة عادية، دي بالونة هيليوم.

– هيليوم! إيه هيليوم ده؟

– ااااا.. بص، الهيليوم ده هوا برضو، بس بنحطه جوة البالونة اللي بتكون رايحة لحد بنحبه، عشان بيشوفها دايمًا مرفوعة في السما، عشان متترميش ع الأرض وحد يدوس عليها وتفرقع، وهو يزعل.. عشان بنحب نشوفه مبسوط فبنجيبله أحلى حاجة. بس اوعى تسيبها من إيدك عشان لو طارت هتروح فوق خالص ف السما ومش هترجع.

– يعنى إنت بتحبني قوي عشان كده جبتهالي؟

– طبعًا! بحبك أكتر ما بحب مامتك كمان.

– طيب جدو هو مش ربنا بيسكن في السما؟

– ربنا ساكن جواك.. ف قلبك، ف قلب اللي بيحبوه. بس إحنا لما بنحب نكلمه وبيوحشنا بنبص للسما ونحكيله عشان السما عالية.. وهو أعلى من كل حاجة.. أعلى حتى منها.

– طب أنا بحب ربنا، زي ما إنت بتحبني وعايز أديله هدية.. مش إنت بتقول اللي بنحبهم بنجيبلهم هدايا حلوة بنحبها؟

– طبعًا.. أجمل حاجة عندك ابعتهاله هدية.. وهو هيحبها عشان بيحبك وعارف إنك هتديله الحاجة الحلوة دي مع إنك بتحبها، بس عشان إنت بتحبه أكتر.

 

فاللحظة دي حسيت كأن الدنيا بتتلاشى من حواليا، أو كأني ركبت مع جدو بساط سحري زي اللي ف الكارتون، طار بينا لفوق، كأن جوايا حاجة اتحررت.. سبت البالونة من إيدي وأنا براقبها وهي بتطلع فوق للسما ورايحة هدية لأكتر حد بحبه.. اللي هديته بأكتر حاجة حبيتها ف وقتها، لأنها من جدو اللي كانت شايلة حبه.. وحبي أنا كمان.

 

وقتها شوفت السما بتضحكلي، وبعقل طفل عنده خمس سنين اتهيألي إن ربنا هو اللي ضحكلي لأنه مبسوط مني، أو يمكن لأن هديتي عجبته عشان عارف إني بحبه أكتر منها.. بس لما كبرت عرفت إن اللي كان بيضحك ده كان أنا.. لأن قلبي نور.. ولأول مرة عرفته بجد.. لقيته.. ولقيت معاه الونس، اللي فضل ملازمني لحد النهارده.

 

 

المقالة السابقةلا تقل “وداعًا شاوشانك”.. بل قل أهلاً بالحياة
المقالة القادمةكسر سجن الخزي
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا