المرات الأولى لا تنتهي

1342

من أجل كل تلك المرات الأولى التي توقف عندها الزمن حتى ظننتها لن تمر قط، وتلك المرات الأولى التي مرّت في، فتمنيت ألا تمر خارجي أبدًا.. لأجل ذلك أكتب تلك السطور.. لأجل عام اختبرت به مشاعر لم أكن أعلم بوجودها، ودروبًا لم أرغب في أن أسلكها ولكنني فعلت رغبة مرّة ورغمًا عني مرات.. ومع ذلك أحسب أنني في النهاية نجوت ونضجت.

 

الفرص لا تضيع بل تضيء

بدأ العام بحفنة فرص ضائعة، نعم ليست فرصة واحدة ولكن حفنة.

كتبت حينها “لماذا تأتي الفرص الاستثنائية في أوقات غير مثالية بالمرة؟”، وكنت أظن أنني اختبرت من قبل معنى ضياع الفرص، لكنني اكتشفت أنني أمُر بنفس المشاعر كل مرة “كأول مرّة”، نفس الألم والغضب والضيق.. وفقدان اليقين.

حتى أخبرتني صديقتي لتهوِّن عليَّ قائلة: “ومن أدراكِ أن الوقت المناسب حقًا هو ما ترينه أنتِ مناسبًا؟ أو أن تلك الفرص الضائعة هي من الأساس فرص جيدة؟”.

صدقتها وانتظرت، ولم يكن لديَّ أي خيارات هذه المرة، وضعت الخيوط كلها بيد الله.. يقينًا لن يضيعني.

 

مرّت شهور طويلة، ولأول مرّة أشعر بمعنى “العوض” جليًا وواضحًا، العوض الجميل، كان الله يدبر الأمر كله، ولم أكن أعلم ذلك بعقلي المحدود، كانت الفرص تنضج وتلمع لتضيء مرّة أخرى أمام عيني، فرص حقيقية، وليست زائفة.

كنت أردد دائمًا أنه في طي المحنة منحة، لكن هذا العام اختبرت تلك العبارة بنفسي لأول مرة، وأظن إنها لن تكون الأخيرة.

 

عامي الثلاثون

وفقًا لأوراقي الرسمية لقد أتمتت هذا العام الثلاثون، (أم الثلاثين؟)، لست بارعة في النحو على كل حال. ولكن وفقًا لحساباتي عامي الأول في عقد جديد قد بدأ، وبدأت معه مرحلة مختلفة كليًّا.

في الثلاثينيات.. تصبح من الكبار فجأة، يتعامل معك العالم بجدية لأول مرة، فلم تعد صغير العشرينيات المندفع للتجربة والتهور في أي وقت، ينتظر منك الجميع كشف حساب لما أنجزته في عشرينياتك وما لا زال عليك إنجازه سريعًا الآن. تبدأ الثلاثينيات بمارثون الجري لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من قائمة ما يتوجب عليك فعله، لتحقيق ما يمكن تحقيقة على كل الأصعدة ورغم أنني مُغرمة بقائمة الأحلام والأمنيات، فإنني في عذا العام ومع بلوغي الثلاثين شعرت للمرة الأولى أنني تحررت من ذلك المارثون اللعين.

 

كتبت لنفسي خاطرة لتُذكرني بنفسي وبأهمية التقاط أنفاسي والاستمتاع، بدلاً من تذكيري بقائمة الأمنيات المؤجلة.. وللمفاجأة، لأول مرة أيضًا تتحقق بعض الأمنيات التي احتفظت بها في قلبي هذه المرة بسلاسة عجيبة، وكأنها تحققت حين تحررَت مثلي.

 

يونس.. نجمي الصغير

في هذا العام وُلد “يونس” طفلي الصغير، لأصبح أمًا للمرة الثانية، لكن الأمومة هذه المرة لها مذاق مختلف تمامًا، كنت أحسبني سأصبح “أم البنات” كما رغبت دومًا، بينما يأتي “يونس” ليخبرني أنني قادرة على ذلك، على أن أصبح أمًا لصبي مُدهش يحصد قلوب المعجبين أينما ذهب.

كان هذا عامي الأول في المسؤوليات المزدوجة، ولم أكن لأتحملها سوى بفضل الله وعونه ورحمته.

 

كنت أتخيل أن الأمومة للمرة الثانية هي فعل روتيني “أوتوماتيكي” لكل شيء يُعاد، حتى المرات الأولى للمولود الجديد.. لكنني اندهشت حين وجدت في روحي متسعًا للانبهار بابتسامة “يونس” الأولى، حتى صارت دقات قلبي حماسية أكثر من اللازم، وبكيت فرحًا، تمامًا كما حدث مع “فريدة” طفلتي الكبرى، حينها تأكدت أنني لا زلت قادرة على استقبال كل المرات الأولى لنجمي الصغير بنفس الشغف والاندهاش والحب والفرحة، كأنني أم لأول مرة.

 

فقد الأصدقاء

في الأعوام السابقة، كنت أذهب لسرادق العزاء مع أصدقائي، لتعزية فقدان الآباء والأمهات والأجداد، أما في عامي هذا، اختبرت لأول مرة تعزية النفس والأصدقاء في صديق لنا، شاب مثلنا تمامًا، لكن روحه أنقى بكثير من المكوث في تلك العالم الملوث. كنت أتخيل أن هناك متسعًا من العمر حتى يحدث ذلك، على الأقل ليس في ثلاثينياتنا، لكن قدر الله وماشاء فعل.

 

وضعَت نهاية 2018 غصة بقلبي ونبتة صبّار جديدة، وللمرة الأولى أفهم ماذا تعني كلمة أن يضيف إليك الفقد والوجع سنوات فوق عمرك.. رحمك الله يا حازم!

 

المرات الأولى.. لا تنتهي

قرأت مرّة في رواية تسمى “أسرار صغيرة”: “أنه لا تنتهي المرّات الأولى إلا بانتهاء الحياة”.

وحين حُفرت تلك العبارة بقلبي وعقلي، آمنت أن كل يوم نعيشه هو فرصة جديدة لتجربة شيء “لأول مرة”.. لا ينتهي الحماس إلا إذا توقفنا عن الشعور به، ولن يتلاشى الحب إلا إذا كففنا عن ممارسته في كل لفتة وكلمة. النجاح أيضًا له مذاقات متعددة، والحياة مليئة بتجارب أولى لم تخُضها بعد.

 

لذا كان عهدي لنفسي هذا العام أن تكون أجنحتي قوية بما يكفي لمواجهة العالم، وأن يظل في قلبي متسعًا للحب والحياة رغم قسوتها.

أن أكنس الخذلان والعشم وعدم التقدير خارج روحي المضيئة.. لا مجال للعتمة داخلي الآن.

لن أتكئ على سواي مرّة ثانية.. وسأردد لنفسي حين تخفت وتبهت لأي سبب أنه لا زال في أحلامي متسع للتجديد والتنفيذ، ولا زال في عقلي أفكار تولد كل لحظة، ولا زال في صندوقي حواديت تنتظر السرد.

 

لن أنتظر الوقت المناسب لأي شيء.. سأبدأ الآن لأجعله وقتي المناسب، ولن ألتفت، سأصل لأصنع من المرات الأولى كتابًا سحريًا أرويه لأولادي وأحفادي حين أصبح جدة عجوز تروي الحكايات بشغف في كل مرة، كأنها أول مرة.

المقالة السابقةسنة أولى جواز
المقالة القادمةالنجاح في الولا حاجة
كاتبة وصحفية مصرية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا