الحضرة

386

 

بقلم/ ماهيتاب أحمد

 

من الوقت للآخر كانت تجتاحني فكرة حضور حفلة من حفلات “عامر التوني” في ساقيه الصاوي، ودائمًا ما أنقر على زر “سأحضر” أو “مهتمة” لكل إيفنت له على فيسبوك، وأنا أعلم جيدًا أني لن أحضر، لأنني في محافظة غير المحافظة، أو لأني مشغولة.. لا أعلم.

 

تمر الأيام والشهور بل والسنين على هذه الأمنية بالحضور، ثم تزوجت وانتقلت إلى القاهرة، ومرت الأيام بشكلها الجديد، ودوري في التأقلم على الحياة الزوجية، فتناسيت وأجَّلت بعض أمنياتي الخاصة، وفجأة ظهر أمامي على شاشة الموبايل وأنا أتصفح فيسبوك حفلة للتوني في الساقية، وكأنها تخبرني ما عاد لكِ حجة، أخبرت زوجي برغبتي في حضور هذا الحفل. في حقيقة الأمر لم يعترض، وإن كان غير مهتم بهذا النوع من الفنون، وحجز ونقرت أنا على اختيار “سأحضر” في سعادة عارمة وأنا على يقين هذه المرة أني سأذهب.

 

وجاء اليوم بعد أسبوع كامل، كنت أرجوه أن يمر سريعًا لأحقق أمنيتي، فقد كنت كطفلة وعدها والدها بهدية آخر الأسبوع، أريد أن أحضر الحفل، أريد تجربة هذا الإحساس الذي طالما قرأت عنه وسمعت من مريديه فتعجبت لأقوالهم ورأيتها مبالغًا في أمرها لكن في نفس الوقت قتلني الفضول لأحكم بنفسي.

 

تجهزنا، ولا أعلم لماذا اخترت في هذا اليوم أن أكون بسيطة، فالملابس تنورة ألوانها بسيطة، والقميص الأبيض والطرحة الكحلي، لا لمساحيق المكياج، وحذاء أرضي.. في حقيقه الأمر لا أعرف السبب الرئيسي لاختياري، غير أني أريد أن أكون خفيفة.

 

تأخرنا في إيجاد مكان للسيارة، فالشوارع زحمة بشكل مبالغ في أمره، أكره أن أضطر للخروج إلى مشوار معين في نهاية الأسبوع في شوارع وسط البلد في القاهرة.

 

حمدًا لله.. وجدنا للسيارة مكانًا، ووجه زوجي ولسان حاله يخبرني أنها آخر مرة سنذهب في آخر الأسبوع إلى وسط البلد، ممسكًا بيدي في خطوات سريعة. دخلنا إلى الساقية وصوت التوني قد ظهر لنا من بعيد، معلنًا عن تأخرنا عن ميعاد اللقاء، ثم المسرح أخيرًا، وأشار المسؤول لنا عن أماكننا وجلسنا.

 

على المسرح رجل خمسيني بلحية بيضاء يشوبها قليل من السواد، يرتدي جلبابًا أبيض فضفاضًا، ولوهلة رأيته حافي القدمين ولم يزده هذا إلا وقارًا، وراءه فرقته الموسيقية تستمع إليه في سلطنة وكأنها تسمعه لأول مرة، صوته رخيم عميق وكأنه يخترق الفؤاد فيهزه بكلمات عظيمة في حب الله، ولكن حب من نوع آخر، فلا تعلم أيهما أعظم الصوت أم الكلمات، فكلاهما يدخل إلى القلب ويهزه ويظل عاكفًا على هزه، حتى يسقط كل ما فيه من هموم ومشكلات ومادية، ويحل محله هواء نقي وإحساس بخفة.

 

ثم يتراءى لنا ثلاثة شباب بتنانيرهم الملونة، يتمايلون سكارى وما هم بسكارى، يؤدون حركات لا تقل إبداعًا ولا شغفًا من الكلمات والألحان، تارة يضمون أيديهم إلى صدورهم فتشعر بالأمان، وتارة أخرى يرفعون أيديهم إلى السماء فتشعر بالاستسلام. خطفت نظرة إلى زوجي فرأيته مبتسمًا ابتسامة الانبهار، وكأنه أحد المريدين الدائمين وليس أول مرة.

 

وجاء وقت الاستراحة، فنزلنا إلى أرض الواقع، بعد مدح زوجي على التوني والإحساس الجميل ذهب ليحضر لنا القهوة. جلست أتفحص الوجوه فتعجبت كثيرًا، ما هذا المزيج؟! هناك سيدة أربعينية يبدو على هيئتها أنها جاءت بعد دوامها الحكومي هاربة من الزوج والأولاد، وهؤلاء مجموعة فتيات جامعيات يبدو عليهن أنهن مغتربات في السكن الجامعي لجامعة القاهرة، وهناك سيدتان ورجل يظهر عليهم الثراء وكأنهم حاضرون للأوبرا لحضور حفل بحيرة البجع، وغيرهم وغيرهم.. مزيج عجيب من البشر لا يجمع بينهم إلا شيء واحد لافت للانتباه، وهو أن معظمهم هذه ليست المرة الأولى ولا حتى الثانية لهم، وكأنهم وراء هذا الرجل أينما ذهب وكل مرة.

 

عاد بعد الاستراحة، وأخذ يشدو ويشدو، تارة يبتسم وتارة يبكي، ومغمض العينين وكأنه لا يريد أن يرى أحدًا، وتراءى لي أن كل الحضور لا يلمسون الأرض، بل في الهواء، فلا جاذبية إلا جاذبية الكلمات والألحان والتنورة، وأصوات تعلو من حين لآخر “الله الله!” وأخرى “الله يفتح عليك يا عم عامر!”.

 

انتهت المولوية ولم ينتهِ الإحساس قط. المسرح على النيل، فتباطأت في الخروج حتى أرى نيل القاهرة ليلاً، فنظرت وأخذت جولة حتى شبعت.

 

خرجنا من الساقية ونحن نتناقش حول أن هذا الرجل عظيم الصوت، أخذنا إلى منطقة أخرى في عالم موازٍ مريح، ولا بد من الحضور له من حين لآخر لتصفية الذهن والقلب، وإذا به أمامنا ومعه الرجل والسيدتان، فابتسمنا له وابتسم، وفي بال زوجي وبالي صورة معه للذكرى، فتباطأ وكأنه عرف ما يدور في خلدنا، وصوَّرتنا إحدى السيدتين وأثنينا عليه ومضى ومضينا.

 

في طريق العودة للمنزل أنظر من النافذة، فشوارع القاهرة بعد الساعة 12 مختلفة، وكأن بها سحرًا مع صوت عامر التوني الذي شغله زوجي على هاتفه حتى لا نخرج من الحالة المبهجة.

 

ورجعت إلى بيتي بيوم جميل وإحساس راقٍ وصورة أعتز بها، ووعد لم يتحقق حتى الآن في حضور حضرة في حضرة الأستاذ.

 

حفلات عامر التوني

 

المقالة السابقةفوبيا الجنس
المقالة القادمةتعديل سلوك الطفل الجنسي، علاج السلوك الجنسي عند الأطفال
مساحة حرة لمشاركات القراء

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا