الحدود في العلاقات العاطفية وغيرها

4546

لماذا لم نعد -أو على الأقل لم يعد الكثير منا- قادرين على الفرحة؟ ولماذا صارت الضحكة من القلب عزيزة؟ هل أحداث العالم صارت أكثر كآبة، أم أننا كبرنا وأصبحنا نعرف ونلاحظ ما لم نكن نعرفه ونلاحظه من قبل، أم هما السببان معًا؟ يكون الواحد منا في لمة حلوة مع أصدقاء، أو في رحلة استجمام، ولكنه يذكر الأبرياء الذين يموتون هنا وهناك، أو المرضى الذين يملؤون المستشفيات، أو الغلابة الذين يبحثون عن طعامهم في القمامة، أو قريبه الذي فقده، أو أخاه الذي يتعافى من الإدمان، والقائمة تطول. تقتحم المشاهد والأخبار ذاكرته دون استئذان وعلى غير رغبة منه، فيتسلل إلى نفسه مزيج من مشاعر الحزن والذنب وربما الخوف أو الغضب. 

ولا أملك أمام تلك المشاعر إلا أن أُقر بها وأصمت بعض الوقت احترامًا لها، ولإنسانيتنا التي تحتم علينا أن نتألم لألم غيرنا. وهنا قد يأتي السؤال: هل يجوز لنا أن نفرح ونعيش حياتنا العادية رغم المآسي والأحزان التي تحدث في حياة من حولنا ممن نعرف أو لا نعرف؟

الحقيقة المؤلمة أن نعم. فهذا لا يحق لنا فحسب بل يجب علينا أيضًا أن نفعل ذلك، أو على الأقل أن نحاول. لن ننجح بنسبة 100% وهذا طبيعي، خصوصًا كلما كان الحدث في الدوائر القريبة منا. أتدرون لماذا يجب أن نسعى إلى السعادة وغيرنا يتألم، رغم أن هذا يبدو غير إنساني؟

الحدود في العلاقات العاطفية وكل العلاقات

إن الحب بين اثنين لا يستلزم أن يشعرا دائمًا بنفس المشاعر في نفس الوقت. من حقك أن تشعر بالسعادة وغيرك حزين. فعلى الرغم من أنه من الطبيعي، بل من المطلوب، أن نتأثر عاطفيًا بحالة الآخرين ممن نحب، نحمل معهم أحزانهم ونشاركهم أفراحهم، لكنه من الضروري أيضًا ومن الصحي لنا وللآخرين أن نضع حدودًا بيننا وبينهم شعوريًا. فالمتألم يسيطر عليه الألم والحزن، ولكي تساعده يجب أن تشعر بقدر من الألم يجعلك متعاطفًا معه ويجعله شاعرًا أنك تحس به، ولكن إن سيطر عليك الألم أنت أيضًا ففيمَ تختلف عنه؟ وكيف ستساعده؟

يجب أن يصاحب تألمك له شعور بالأمل، حتى تستطيع أن تأخذ بيده إلى وضع أفضل وتعينه على رؤية الحياة بمنظور آخر. إن التقمُّص الوجداني يتضمن مخاطرة الدخول إلى وجدان الآخر، ولكن في خطوة الدخول هذه ينبغي أن نبقى على الحدود، كأننا عندما ندخل إلى وجدان الآخر يجب أن نحافظ على إحدى قدمينا في الخارج، مما يذكرنا بأننا لسنا هذا الآخر. 

ثم إنَّ المشاعر السلبية إن تملكت منا سلبتنا أي طاقة للقيام بمسؤولياتنا، ومساعدة الآخرين وتغيير الواقع الذي لا نرضاه. والتغيير لا يعني بالضرورة التدخل المباشر لتغيير الأمر الذي لا ترضاه.

أنواع الحدود في العلاقات

أن تضع حدودًا بينك وبين الآخرين يعني أن تركز على ما يخصك وما يمكنك عمله. لا يمكنك تغيير الآخرين. فليس من المجدي أن تركز على العوامل الخارجية. وهذا يقودنا إلى الحديث عن أنواع الحدود في العلاقات.

1. ضع حدودًا بينك وبين الآخرين بالفعل:

عن طريق التدخل المباشر، وهذا قد يكون في الشأن العام بعمل بسيط، ولكنك تقدر عليه بشكل أكبر في بيتك مثلاً بأن تغرس الخير الذي ترجوه للعالم وتحارب الشر في نفسك وأبنائك. من حقنا أن نحلم أحلامًا كبيرة، لكننا وقت التنفيذ نحتاج إلى خطوات صغيرة عملية واقعية تدفعنا إلى النهوض من الفراش بالصباح لنقوم بها.

2. ضع حدودًا بينك وبين الآخرين بالقول:

عن طريق المواساة، أو تقديم النصح، أو نشر العلم… إلخ. فقد يتقبل الآخر أن تشجعه، ولكنك إن تدخلت بشكل أكثر قوة وإلحاحًا لإجباره على شيء أو منعه عنه، فسيكون ذلك تعديًا على حدوده الشخصية.

3. ضع حدودًا بينك وبين الآخرين بالقلب:

بأن تحتفظ بقدرتك على التمييز بين الصواب والخطأ، دون أن تعتاد الخطأ مع الوقت، أو تتحول لتبريره لتُسكِّن ضميرك، أو تفتتن بمن كنت تثق بهم وصاروا يبدلون مبادئهم بين يوم وليلة تحت ضغوط الخوف أو حب الجاه أو المال. التغيير بالقلب أيضًا يتضمن أن تمسك عن الكلام مع من تعرف أنه لن يقبل نصحك مع الاحتفاظ بقبولك له وعدم إصدار أحكام عليه. وليس هذا سهلاً، أليس كذلك؟ 

إذًا، لكل مقام مقال. فليس من المستويات السابقة ما هو أفضل من غيره أو أسهل. إنما الأسهل أن نتوقف عن القيام بمسؤولياتنا وأن نستسلم لمشاعر الحزن والذنب التي قد تمنحنا إحساسًا زائفًا بالرضا وتوهمنا بأننا نفعل شيئًا. لب الموضوع إذًا يكمن في تمييز حدود المسؤوليات والمشاعر بيننا وبين الآخرين. قد تكون حدود المسؤوليات أكثر وضوحًا، على عكس حدود المشاعر التي تُعد من أخبث أنواع الحدود. لذلك، كان من المهم أن نتطرق إلى بعض الوسائل التي تساعدنا على رسم تلك الحدود.

ضع حدودًا بينك وبين الآخرين. لماذا؟

– تساعدك الحدود الوجدانية على التمييز بين مشاعرك ومسؤوليتك عنها ومشاعر الآخرين ومسؤوليتهم عنها، مما يحميك من لوم الآخرين على ظروفك، والشعور بالذنب من أجل مشاعرهم السلبية ومشكلاتهم، وأخذ تعليقاتهم بشكل شخصي، وتقديم النصح في غير موضعه.

– رسم الحدود الصحية يساعد أيضًا في الحفاظ على العلاقات، فهناك شيئان يحدثان عندما تكون الحدود في العلاقات ضعيفة: ردة فعل عنيفة تجاه الطرف الآخر، وشعور بالذنب.

– كما أنها تبعث للآخر رسالة احترام وقبول لأنك عندما تعرف أنك غير مسؤول عن مشاعره، فإنك تستطيع أن تمنحه وقته لتهدأ مشاعره السلبية، في حين أنك عندما تحاول إخراجه من حزنه بطرق ساذجة ومتعجلة، وتتهمه بالضعف والنكد، لأنك لا تتحمل حزنه، فإن هذا قد يسبب له شعورًا بأنه غير مقبول في حالته هذه، وأن عليه أن يكون دائمًا مشرقًا ومبتهجًا لكي تقبله. إنها رسالة رفض وإن كانت مغلفة بالنوايا الحسنة والرغبة في إخراجه من حالته السلبية. 

وتتطلب الحدود الصحية معرفة مشاعرك ومسؤولياتك نحو نفسك ونحو الآخرين، ولكن يصعب على الشخص الاعتمادي وضع تلك الحدود لعدة أسباب، منها: أنه يعطي الأولوية لمشاعر واحتياجات الآخرين، وأنه لا يعرف نفسه جيدًا، وأنه لا يصدق أن له حقوقًا، وأنه يعتقد أن وضع الحدود يعرض العلاقة للخطر، وأنه لم يتعلم كيفية وضع حدود صحية.

معني الحدود الشخصية

الخطوات التالية تساعدك على رسم تلك الحدود: 

1- حدد مشاعرك وأقر بها: من أجل وضع حدود فعالة، يجب أن تحدد شعورك والسبب وراءه. إن هذا يعني أنك استطعت أن تفرق بين نفسك وبين الشخص الآخر، وأن شأنه لم يعد يستحوذ عليك للدرجة التي تعميك عن مشاعرك. 

2- حدد كيف تم تجاوز حدودك: هل مثلاً يقترض منك صديقك المال دائمًا ولا يعيده؟ 

3- حدد الحدود التي تحتاج إلى وضعها: عندما تحدد ما يسبب لك المشاعر السلبية، قرر ما الذي تحتاج أن تقوله لهذا الشخص الذي يتجاوز حدودك، وما الذي يمنعك من توكيد حدودك معه. 

4- أعلن حدودك بهدوء وحزم: لن تثمر الحدود نتيجة عندما يتم رسمها أثناء الغضب أو بالصياح، لأنك لن تُسمَع. فالحدود ليس الهدف منها العقاب، ولكن هدفها الحفاظ على سلامتك الشخصية. 

5- اعتنِ بنفسك: إذا لم يحترم الشخص الآخر حدودك فإن الأولوية لنفسك، ومن الأفضل أن تحجم تلك العلاقة. إن من حقك أن تكون لك خصوصية، أن تقول لا، أن تُخاطَب باحترام، أن تغير رأيك، أن تطلب من الأشخاص يعملون لك الشيء الذي تريده، أن تطلب المساعدة، أن تُترَك وحدك، وألا تجيب سؤالاً أو مكالمة هاتفية أو رسالة إلكترونية. 

يستغرق رسم حدود فعَّالة وقتًا، والوعي بالذات وتعلم الحزم هما الخطوات الأولى. وضع الحدود ليس أنانية ولكنه حب للذات وللآخرين أيضًا. فالقنافذ عندما تتقارب مع بعضها تشعر بالدفء، ولكن عندما يزيد هذا التقارب عن حد معين فإنها تؤذي بعضها بعضًا بأشواكها.

كتب عن الحدود في العلاقات

كتاب صحة العلاقات، د. أوسم وصفي

كتاب الحدود، د. هنري كلود، د. جون تاونسند، دار الكلمة

المصادر: 

كتاب “صحة العلاقات”، د. أوسم وصفي و هنا أبضا  و هنا

 

المقالة السابقةمتستقويش نفسك
المقالة القادمةباترون للصداقات المثالية

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا