الجزء المضيء من الباب الموارب

710

أجلس في ركن صغير من الغرفة ذات قطع الأثاث القديمة والمتهالكة، على أريكة زرقاء بهت لونها غالبًا بعوامل الزمن، وبما أنني في مقر شركة حديثة النشأة نسبيًا، وبحسب تخميني فهي أريكة مُستعمَلة، تم شراؤها في مزاد بسعر زهيد، لاستخدامها من أجل ملء الفراغ الواسع في الغرفة. أنتظر ميعاد “الإنترفيو” بفارغ الصبر. حضرت قبل موعدي بنصف ساعة، وقد مرت سريعًا، ومع هذا فقد تأخرت المسؤولة عن “الإنترفيو” بما يقرب من الساعة والنصف، وأنا أكره الانتظار جدًا، لما يثيره بداخلي من “أوفر ثينكينج”، لتتوالى أفكار الانسحاب من هذا “الإنترفيو” حالاً، وتتكاثر تساؤلات الـ”أنا بعمل إيه هنا؟!”، لكن شيئًا ما يمنعني من الانصراف، ربما لتعلقي بأمل غير واضح الملامح.

لقد أخذت من عملي الحالي إجازة خصوصًا لكي أبحث عن عمل آخر. بحثت مطولاً، ما بين مُدرسة في مدرسة “إنترناشونال”، وحتى سكرتيرة بمكتب دكتور أسنان، لم أجد شيئًا يناسبني. حتى وجدت أمامي إعلانًا عن شركة صغيرة تصنع محتوى إعلانيًا وترغب في كُتَّاب ومقدمي أفكار، وهي الوظيفة التي أجلس الآن من أجل “الإنترفيو” الخاص بها، التي لربما تكون الأقرب إلى شغفي، لذلك لن أرحل. لا أقدر على سؤال “ماذا لو…” الذي سيتردد بداخلي ما لم أحضر هذا “الإنترفيو”.

وأخيرًا، وصلت المديرة المسؤولة عن “الإنترفيو”، لنتحدث كثيرًا عن متطلبات الوظيفة، ولأجد نفسي أعلى منها كلها، فتبش في وجهي وهي راضية عن إمكانياتي التي تبدو الوظيفة متواضعة أمامها، وحين أسألها عن المرتب، أجد أنني لن أجد ما يكفي ثمن المواصلات، فضلاً عن عدم وجود عقود تُؤمِّن عملي أو تأمينات اجتماعية، فإذا استيقظت صباحًا لأجد أن هذه الشركة قد أغلِقت أو أعلنت إفلاسها، لن يصبح لي ما يؤمِّن حقي.. لأنصرف خائبة الرجاء.

قلبي يؤلمني كثيرًا، أشعر بأنني ترس صغير في آلة كبيرة جدًا، لا أملك زمام أمرها، لا أقدر أن أوقفها أو أجعلها حتى بطيئة بعض الشيء، نعم يوفر لي عملي الحالي حالة من الأمان المادي والاستقرار، خصوصًا وأنا على أعتاب الزواج، لكني أفقد فيه هويتي، أفقد ذاتي، إحساسي بالإنجاز، رغم أمانه فإنه يسلبني قدرتي على حب ما أعمل.

الاكتئاب الناجم عن الإحساس بالفشل صعب، والأفكار التي تراودك بسببه تؤكد لك أنك غير ذي قيمة، إذا اختفيت عن العالم لن يتأثر، ليس لك جدوى حقيقية فيما يجري حولك، مجرد أداة لخدمة كيانات أكبر، تدفع مقابل المادة أثمانًا باهظة، وقتك وجهدك وصحتك، في شيء لا تحبه، ليس لك حتى وقت للجلوس بمفردك لتأمل سماء ملبدة بالغيوم، أو لتسير تحت المطر فتطهر روحك قطراته، تخرج التاسعة صباحًا لتعود التاسعة مساءً لمنزلك، وأنت تشعر بالاستنزاف الجسدي والمعنوي.

بلغت الخامسة والعشرين من عمرك، وكل خططك عن دراساتك وأحلامك وكتاباتك التي تغير حياة الملايين لم تصل حتى إلى ربعها، ولم تعد صغيرًا لكي تبدأ من الصفر، حيث تأخذ الفتات دون أي إثبات حتى يضمنه لك، إذا قررت أن تعمل شيئًا تحبه.

ظلت حياتي تسير على هذا المنوال فترة لا بأس بها، تمامًا كالزومبي أو كالروبوت المُبرمج، يستيقظ ليفعل الشيء ذاته ويعود لحالة الخمول بعد الانتهاء منه، غير مقتنعة بكلام من حولي عن أنها محض فترة مؤقتة، لأن كل المؤشرات تقول إنها ليست كذلك. أخذت إجازة طويلة، لأنعزل عن العالم، وأفكر جيدًا.

ظللت أستيقظ يوميًا غير راغبة في شيء، أعبث بهاتفي طوال اليوم حتى النوم، أو أشاهد الأفلام، حتى قرأت يومًا مقولة وأنا أعبث بالفيسبوك، تقول فيما معناه، إن الحياة ليست قائمة بقالة، تمتلئ بأشياء تستطيع أن تجلبها من السوبر ماركت، لتضع بجانبها علامة “صح” حين تحصل عليها، ليست سباقًا، ليثبت أحدهم فيها أنه الأقوى أو الأغنى أو الأسرع في الوصول لحلمه، ليس ثمة وقت معين لبلوغ أحلامك، قد تصل إليها في العشرينيات أو في الخمسينيات من عمرك.

وحين فكرت في الأمر، وجدت أن خوفي الأساسي وإحساسي بالفشل هو اقتراب مرور عام على مكوثي في عملي الحالي، فقد وعدت نفسي حين بدأت هذه الوطيفة العام الماضي بأن بحلول رأس السنة سأكون في مكان آخر، أتقاضى أجرًا جيدًا في عمل أحبه ويتماشى مع مؤهلاتي ودراستي، وسأكون شجاعة بما يكفي للاستقالة، ولن يوقفني شيء عن تحقيق هذا الحلم، مهما كان.. سأسعى بكل طاقتي لبلوغ هدفي، وأنتقل إلى مرحلة جديدة من حياتي أكثر استقرارًا نفسيًا وماديًا، لكن هذا لم يتحقق، لذلك شعرت بالفشل وبأنني عديمة الجدوى، لكن هل عدم تحقق الخطط يعني فشلها؟

تفشل خططنا فقط حين نتخلى عنها، حين نستسلم لأنها لن تتحقق، نركنها فوق رف الأحلام المؤجلة، ولا نقترب منها مجددًا، لكن تأجيل الخطط مع السعي الدائم لتحقيقها لا يعني فشلنا فيها، ولا يوجد مجال لأي كلام عن التنمية البشرية والأحلام ممكن أن تتحقق، على العكس، كلامي في غاية الواقعية، لماذا نصر دائمًا عن وجود تاريخ انتهاء صلاحية للأحلام، ولماذا نرهق أنفسنا دائمًا بالتخطيط المدروس الدقيق، دون وضع عوامل الصدفة والقدر فيه، دون الإيمان بالنفس والطاقة والقدرة على الوصول لأحلامنا، حتى لو كنا في نظرنا سنصل متأخرين، لربما للقدر خطة أفضل، توصلنا لأحلامنا في الميعاد المناسب، والذي سنكتشف أنه كان مناسبًا عند الوصول.

لماذا نركز الآن على أن الأبواب مغلقة، دون النظر لذلك الجزء المضيء من الباب الموارب هناك؟ فمن الأكيد أنه قد وصلت لبعض الأشياء التي لم تكن لتدركها لولا وجودك هنا، في هذا الوقت والمكان تحديدًا، ولربما تركيزنا الزائد على تحقيق ما نراه صعب المنال يعمي أعيننا عما حققناه بالفعل.

والآن، ونحن على أعتاب ٢٠١٩، لم أعد خائفة، ما دام قلبي يخفق، سأظل أنظر للجزء المضيء من الأبواب المواربة، حتى يغطيني الضوء كله.

المقالة السابقة15 حقيقة واقعية عن العلاقات
المقالة القادمة“الأوفريندا”..حكايات الحب والحياة والموت
صحفية وكاتبة مصرية.

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا