البطلة التي لم تحبني

878

بالأمس حضرت جنازة عمي، وتعرفين يا أمي كم أكره الجنازات. بعد أن حضرت جنازتك، لم أبكِ يا أمي.

يبدو أني وصلت لمرحلة ما في رحلة التعافي، تخطيت فيها فكرة الدموع والمناديل وسيلان الأنف المستمر. أو ربما بكيت بطريقة أخرى عندما ظهرت كل تلك الحبوب الحمراء الغاضبة على وجنتي وجبهتي.

تعلمين يا أمي أن بشرتي الملساء لم تعرف الحبوب من قبل، لذا سأرجع ذلك لأسباب مناخية بحتة.

 

ما زلت أخافك يا أمي فأكذب. بعد خمسة أعوام من فراقك، أنا بخير.

أو ربما أكذب ولست بخير، لأنك تعلمين جيدًا أن ما نُكِن في صدورنا سيخرج حتمًا شئنا أم أبينا.

المهم الآن يا أمي أصبح من السهل عليَّ أن أقولها، لم أكن أحبك، لا أشعر بالخجل ولست خائفة الآن.

 

عاملتِني بقسوة، فضَّلتي إخوتي عليَّ حتى صرت غريبة في حضن داري. ها أنا أقولها ولا أخشى توبيخًا من أحد، أتعرفين لماذا؟ لأني وضعت نفسي مكانك ووجدت أني لم أكن أستطيع أن أفعل كل ما فعلتِ دون تقصير. كنتِ مقاتلة من الدرجة الأولى وكنت أنا إحدى نقاط تقصيرك.

 

سأخرج من كوني الابنة وأحاول أن أنقل الصورة بصوتك، مات زوجي في الطائرة العائدة بنا إلى الوطن من غربتنا، مات بالسرطان بعد معاناة وصراعات مريرة، نزلت من الطائرة إلى البيت لأجد أيضًا أن أبي قد مات منذ أربعة أيام ولم يخبرني أحد، معي خمسة أبناء أكبرهم على مشارف الجامعة وأصغرهم لم يتعدَّ السنتين والنصف، لا أعمل وليس لديَّ وقت للبكاء.

 

والحمد لله لم أكن مكانك، لأني بالتأكيد كنت سأبكي وأنتحب كثيرًا، أضم أبنائي إلى صدري وأتساءل من لكم؟!

 

أنتِ البطلة التي لم تفعل ذلك، أخذتِ تبحثين للكبير عن جامعة لائقة رغم تنمُّر الجميع وتدخلهم في حياتك لأنك الأرملة المسكينة، قسمتِ الميراث بعناية وذكاء حاد ينم عن بصيرة غير معهودة، أودعتِ الثلاثة التالين في مدرسة جيدة، في وقت كان الاهتمام بسلامتنا النفسية رفاهية مطلقة، خططتِ للمستقبل واستثمرتِ بعض الأموال وأنتِ تحملين الصغير على كتفك.

 

وما أن استقرت الأمور قليلاً، حتى بدأت مشكلات المراهقة تتوالى عليكِ، وتحلينها واحدة تلو الأخرى، لم يمضِ يومًا واحدًا دون أن يعكر صفوك أو يشغل رأسك شيء ما، ما بين مصاريف المدارس والملابس والاحتياجات أو حتى رفاهيات وأعياد ومجاملات وغيرها، أدرتِ بحكمة بالغة كل أمورنا المادية وبعض أمورنا المعنوية.

 

لم يكتفِ القدر، مرضتِ أيتها البطلة وعانيتِ كثيرًا وترددتِ على الأطباء دون تحسُّن واضح، لتصبحين الآن أرملة يتيمة مريضة معيلة لخمسة أبناء، ولما رأيتِ أنه لا مفر من مواجهة الموت، دربتِنا على تحمُّل المسؤولية، خصوصًا أنا وأختي، أردتنا فتيات قويات مستقلات، ولأني كنت صغيرة لم أقبل هذا التدريب واعتبرته قسوة بالغة، في حين تعلمت أختي سريعًا، فكانت الفتاة المطيعة حاملة السر والمساعدة الأولى في تدبير المنزل، لم أعِ أبدًا في هذه اللحظة أن كل ما أردتِه مني أن أتعلم سريعًا قبل فوات الأوان.

 

في الوقت الذي استجابت فيه أختي سريعًا كنت أنا المُدللة المتمردة، لا آخذ أمرًا دون مناقشته أو رفضه أو التقاعس عنه بعمد أو غير عمد، كانت لي حياتي الخاصة وأولوياتي البعيدة كل البعد عن طموحاتك، فكنت أُفضِّل الكتابة عن المذاكرة والقراءة وحدي بمعزل عن تجمعات الأسرة (التي كنتِ تعدينها الأيام الأخيرة) لذلك لم تحبيني وكرهتِ تصرفاتي (بمفهومي السابق)، قد كنت العقبة في طريق نجاحك في تربية أبنائك، لذا لم يكن أمامك سوى الصراع معي طوال الوقت لتقويم سلوكي، كي لا أظل معتمدة على وجود أختي الكبرى، كي لا أنهار وأتحطم بعد رحيلك. أردتِني كأختي وهذا ما لم يحدث، فاعتزلتك، وأيقنت أن الباب مسدود بيننا والتفاهم بات مستحيلاً، تناسيت وجودك في حين اعتبرتني النقطة السوداء في سجلك الأبيض النظيف.

 

هل نقلت الصورة بوضوح الآن يا أمي؟

ربما ليس بعد، اشتد المرض عليكِ بعد أن زادك ألقابك، فأصبحتِ الأرملة اليتيمة المريضة الجدة، حيث تزوج ثلاثة من أبنائك.

المهندسان والطبيبة أتوا لك بأربعة أحفاد، وتبقى لك النقطة السوداء والطبيب الصغير. الآن لم يعد سوانا في البيت، أنا وأنتِ علينا المواجهة، أنتِ تقولين هذه المدللة عليها تحمل المسؤولية. وأنا أتساءل: لماذا تكرهينني؟!

 

التفاصيل هنا قاتلة لا يمكنني سردها على الإطلاق، التفاصيل هنا هي الصندوق الأسود الذي لم يعثر عليه أحد، لا يعرف أحد ما الذي دار بيني وبينك يا أمي، ما الأسرار التي تشاركناها معًا في أحلك الأيام وخصوصًا في ساعات الاحتضار. ربما لا يدرك البعض أن معاشرة شخص يحتضر في أيامه الأخيرة كفيلة بتبديل الأمور، كالحجارة التي يتفجر منها الأنهار، انهارت بيننا كل الأسوار، عرفتِني على حقيقتي وعرفتك على حقيقتك حين تبادلنا الحديث بدلاً من الصراع طول الوقت.

 

أدركت كم عانيتِ في حياتك كي تنجي بأسرتك، وأدركتِ معاناتي وعزلتي وأخبرتِني أخيرًا بما أثلج صدري قبل مماتك:

سامحيني إن قِسيت عليكي، دلوقتي بس فهمت إنك مختلفة.. مش وحشة.

دليل براءتي الذي انتظرت عشرين عامًا محاوِلة إثباته يا أمي أتي في لحظة احتضارك.. ورغم أنه ظل في الصندوق الأسود ولكني ممتنة لكل شيء في الحياة مهَّد لهذه اللحظات، التي أعطتني في النهاية سببًا أعيش من أجله.

 

ماتت البطلة بعد أن أحببتها وتعلَّقت بها كثيرًا، وتمنيت أن أقضي معها الكثير من الوقت. لتظِل الحكمة ليست كل الأمور التي تأتي متأخرة نفقد اهتمامنا بها، البعض منها يُثلِج الصدر ويعطينا سببًا لإكمال الحياة.

المقالة السابقةكلنا سينجل ماذر في شوارع هذه المدينة
المقالة القادمةقانون السينجل ماذرز في مصر ظالم

1 تعليق

  1. ولا تكتمل القصة بعد. أبعاد المثلث تتراخي لتلتهم الداءرةقصة حياة.
    لم يكن هناك ابدا مثلثات شبيهة او متطابقة. فالزوايا ليست ثابتة.
    ابدا. لم تجدي معي (المنقلة) نفعا ولم يمنحني الفرجار براءتة.
    ما علي اذن الا الاتجاة الي مركز الداء رة علي اهرب من قانون الداءرة
    تلتحم خطواتي مجددة الميلاد.
    هو الكاتب يخاطب الكون كلة في سر استمرارة امة

    هو قسي علي نفسة لجهلة بقوانين الحساب
    لم يرد توريط ساحة أمة المقدسة بتلك الخزعبلات
    القوانين الميتة لا تجدي نفعا ولا تغني ولا تسمن من جوع.
    ويتلاشي المركز رويدا رويدا وتكبر الداءرة ليكتشف الكاتب القانون.
    ويذهب مسرعا محاولا استعادة ادواتة الهندسية فيجدها هي هي كما رتبتها لة أمة فيسرع لحل المسألة…..

ترك الرد

الرجاء إدخال تعليقك!
الرجاء إدخال اسمك هنا